جدل السينما... وفلسفة أرسطو!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سطام عبدالعزيز المقرن
مدارسنا ومناهج التعليم تبنت دون قصد منهج أرسطو بالرغم من المعارضة الظاهرة والشديدة للفلسفة عموماً، وفي اعتقادي أن المنطق الأرسطي هو أحد الأسباب الرئيسية في تشدد وتعصب الكثيرين في آرائهم
يقول الدكتور علي الوردي رحمه الله :" إن المجتمع البشري في أي مكان من العالم لا يستطيع أن يعيش بالاتفاق وحده، فمن الضروري أن يكون فيه شيء من الاختلاف لكي يتطور ويتحرك إلى الأمام، وبالرغم من أن الاتفاق يبعث التماسك والتلاحم في المجتمع، لكنه يتسم بالجمود والركود، ومن النادر أن نجد مجتمعاً متماسكاً ومتطوراً في آن واحد".
وبالطبع فإن الاختلاف الذي يؤدي إلى الحركة والتطور يجب أن يقوم على أساس مبدئي لا شخصي، والمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على تيارين متضادين على الأقل، يدعو كل تيار إلى مبادئ ومفاهيم مختلفة عن الآخر، فأي اختلاف بين هذين التيارين في أي مجتمع هو بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما، ولا يمكن تصور المجتمع وهو يمشي بأقدام مربوطة ومتلاحمة.
والمتأمل في واقعنا اليوم، يجد العديد من التيارات الفكرية والتي تضم المثقفين والمتعلمين والمفكرين من مختلف أطياف المجتمع، يتجادلون ويختلفون في حواراتهم الفكرية، مبدين آراءهم ووجهات نظرهم حيال ما يدور في المجتمع من قضايا وتحديات ومشاكل.
وبالرغم من تعدد آرائهم واختلافهم في وجهات النظر إلا أن منهج الغالبية في التفكير واحد، وهو منهج الفلاسفة القدماء وبالأخص منهج الفيلسوف اليوناني (أرسطو طاليس)، والذي يطلق على منهجه اسم (المنطق الأرسطي).
هذا المنطق رغم نجاحه الباهر في ميدان العلوم الطبيعية مثل الهندسة والكيمياء، إلا أنه ثبت فشله في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية مثل علم المحاسبة وعلم الاجتماع والنفس والتاريخ، ومازالت الغالبية تتبع هذا المنهج سواء في الحوارات الفكرية أو المؤلفات العلمية رغم جموده وفشله. يقول الأستاذ زكي نجيب: "كانت الفلسفة طوال القرون الوسطى تقوم على أساس خطأ لا يمكن أن تؤدي إلى علم جديد، فقد اتخذت القياس المنطقي سبيلاً لتأييد المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وسيلة عقيمة في كثير من وجوهه لأنك مضطر أن تسلم بمقدماته تسليماً لا يجوز فيه الشك، فمهما أمعنت في البحث والاستنتاج فأنت محصور في حدود المقدمات التي سلمت بها بادئ ذي بدء".
وأهم الطرق التي يعتمدها المنطق الأرسطي هي طريقة (القياس)، والتي تتألف من ثلاث مكونات رئيسية وهي المقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى، ومن ثم النتيجة ولا يسعني في هذه المقالة أن أتحدث عن القياس في جميع أنماطه وأشكاله، وإنما أحاول توضيحه من خلال قضية شائعة أشغلت المجتمع إلى حد ما وهي قضية (السينما)، حيث انقسمت آراء الغالبية ما بين مؤيد ومعارض، وعند تحليل هذه الآراء نجد أن المنهج الأرسطي واضح فيها رغم اختلاف الرأيين، وذلك على النحو التالي:
1- الرأي المعارض للسينما:
كل شيء يضر بالمجتمع يجب محاربته.. (مقدمة كبرى)
والسينما مضرة للمجتمع.. (مقدمة صغرى)
إذن يجب محاربة السينما.. (النتيجة)
2-الرأي المؤيد للسينما
التطور الفكري والثقافي مطلب حضاري.. (مقدمة كبرى)
والسينما شكل من أشكال التطور الثقافي والفكري..(مقدمة صغرى)
إذن السينما مطلب حضاري.. (النتيجة)
ومما سبق يتضح منهج أرسطو في رأي كلا الفريقين، علماً بأن كل نتيجة وصل إليها الفريقان قد تصبح فيما بعد مقدمات لقياس أرسطي آخر، والإشكالية هنا أن هذا القياس يعتمد على مقدمات يعدها بديهيات ثابتة لا تتغير وحقيقة لا يجوز الشك فيها، وهذا الاعتقاد قد يصلح فقط مع العلوم الطبيعية كما أشرت سابقاً لأن معاييرها في الغالب متفق عليها علماً بأنها تتغير مع التطور العلمي ، أما في العلوم الاجتماعية والإنسانية فالمقدمات ليست بديهية وليست ثابتة بل متغيرة وتخضع لظروف ومؤثرات مختلفة مثل العادات والتقاليد والمألوفات الاجتماعية الأخرى والتطورات التقنية والعلمية، وهي سنة الله في الخلق والكون.
والعجيب في الأمر أن مدارسنا ومناهج التعليم تبنت دون قصد منهج أرسطو بالرغم من المعارضة الظاهرة والشديدة للفلسفة عموماً، وفي اعتقادي أن المنطق الأرسطي هو أحد الأسباب الرئيسية في تشدد وتعصب الكثيرين في آرائهم. فالمنهج الأرسطي وطريقة قياسه يمكن استخدامه مطية للأهواء والمصالح الشخصية فكل من يريد أن يبرهن على صحة رأي معين أو إثبات مبدأ، يقوم بطريقة مقصودة أو غير مقصودة بالبحث عن مقدمة كبرى تصلح للوصول إلى نتيجة معينة وذلك عن طريق قيم المجتمع والحكم والأمثال، وبهذا تكون الحرب سجالاً بين الناس لا غالب فيها ولا مغلوب.
وعلى هذا الأساس أتساءل ما هي النتيجة التي توصل إليها معارضو السينما ومؤيدوها باتباعهم المنهج الأرسطي في الجدال؟ فالغالبية متمسكة برأيها وتعتقد أن الحق معها، وأن نظرياتهم عقلانية حيادية، كما يعتقد كلا الفريقين أن العقل مرآة الحقيقة، وأن الفريق الآخر متعصب لرأيه، ولو أمعنا النظر في رأي كلا الفريقين، وسألنا في البداية المؤيدين للسينما كيف عرفتم أن التطور الفكري والثقافي مطلب حضاري وإن السينما شكل من أشكال هذا التطور؟ لقالوا لنا إنها من مقتضيات العقل السليم، وانظروا إلى الدول المتقدمة والمتحضرة كيف أثرت السينما في الحركة الفكرية والثقافية! فإذا قلنا لهم من أين جاءكم هذا اليقين؟ هل استطعتم أن تتأكدوا من ذلك فعلاً؟، كما أن السينما موجودة في العديد من الدول النامية ولم تؤثر على الحركة الفكرية هناك!. وفي الجانب الآخر لو سألنا معارضي السينما، كيف عرفتم أن السينما مضرة للمجتمع؟ لقالوا لك إنها تفسد أخلاق الشباب وبالتالي المجتمع! قلنا كيف عرفتم ذلك؟ فالتلفزيون وأفلام الفيديو والفضائيات موجودة في كل مكان! لأجابوا بأن السينما أخطر من الفضائيات! قلنا لهم هل عندكم دراسات أو إحصائيات علمية تثبت ذلك؟
وخلاصة القول إننا ندخل اليوم مرحلة جديدة، ليس فيها مكان للبديهيات المطلقة أو لمقاييس أرسطو، وليس من الممكن أن نقول عن شيء أنه غير معقول بمجرد أن نراه مخالفاً لمألوفاتنا أو آرائنا، وما نقول عنه اليوم غير معقول، قد يصبح معقولاً غداً.