سعي إسرائيل للهرب من أزماتها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
برهوم جرايسي
طوت إسرائيل في الأيام الأخيرة، مرحلياً فقط، واحدة من القضايا المتعلقة بكبرى أزماتها الداخلية، والمرتبطة في آن واحد باليهود الأصوليين المتشددين (الحريديم) وبالصراع الطائفي بين طوائف اليهود الغربية والشرقية، ولكن هناك شبه إجماع غير معلن في الأجواء الإسرائيلية حول أن هذه القضية التي جرى حلها بشكل توافقي ستتفجر لاحقاً وربما قريبا وبأشكال مختلفة.
ويجري الحديث عن نزاع طائفي بين اليهود الأصوليين المتشددين من الطوائف الغربية، (الأشكناز) وبين الأصوليين من الطوائف الشرقية (السفراديم)، في مستوطنة "عمانوئيل" في وسط الضفة الغربية؛ إذ يرفض الأشكناز منذ نحو ثلاث سنوات تعلم بناتهم، بداية في مدرسة واحدة، ومن ثم في صف دراسي واحد مع بنات السفراديم، بدوافع طائفية متشددة، تصل في حالات معينة إلى حد التكفير.
وقد وصلت هذه القضية إلى أروقة المحاكم الإسرائيلية وانتهت في الأسبوعين الأخيرين بإصدار قرار يمنع الفصل بين جمهوري الطالبات، الأمر الذي رفضه الأشكناز، وفضل البعض منهم الدخول إلى السجن لأكثر من أسبوع، على أن يطبَّق قرار المحكمة، وفي نهاية المطاف تم التوصل إلى صيغة اتفاق مؤقت بين الجانبين الأشكناز والسفراديم، وعمليا تم تطبيقه لمدة 3 أيام فقط؛ إذ انتهت بذلك السنة الدراسية الإسرائيلية، وهذا ما أثار سخرية كبيرة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي ألمحت إلى أن هذه القضية ستتفجر من جديد مع افتتاح السنة الدراسية بعد أقل من شهرين.
وتكمن في هذه القضية النموذجية أزمتان داخليتان في المجتمع الإسرائيلي، من جملة الأزمات الداخلية التي لا بد أن تتفاقم أكثر مستقبلا، رغم محاولات إسرائيل الرسمية بث أوهام للتقليل من شأن هذه الأزمات؛ إذ تسعى المؤسسة الرسمية لدفعها جانباً بشكل مؤقت، ولكن ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة هو نموذج صغير لأزمات وانفجارات داخلية أكبر ستشهدها إسرائيل في السنوات المقبلة.
الأزمة الأولى تتعلق بالنزاع الطائفي القائم بين الأشكناز والسفراديم، حتى قبل قيام إسرائيل، ولكنه استفحل مع السنين، وحتى اليوم هناك تمييز واضح بين الجانبين، هذا التمييز الذي رسخته المؤسسة الحاكمة، وهو ينعكس على مستوى معيشة كل واحد من الجانبين، والشعور بالتمييز ما زال واضحا جدا في داخل المجتمع، وكل مزاعم إسرائيل عن "تلاشي" هذه الظاهرة تتبدد عند أول انفجار لها، وهذا ما يحدث من حين إلى آخر.
ونجد التمييز بشكله القوي، الذي يصل إلى درجة العداء، داخل جمهور المتدينين الأصوليين المتشددين، أو كما يطلق عليهم لدى اليهود "الحريديم"، فهؤلاء مجتمع منغلق على نفسه، له نمط حياته الخاص، وفيه تقاليد متشددة تختلف من طائفة إلى أخرى، وتنشب من حين إلى آخر خلافات حادة بين طوائف هؤلاء، وبشكل خاص بين الأشكناز والسفراديم، ومن يدقق في تفاصيل خطابهم الداخلي، يجد أن الأمر يصل إلى حد التكفير المتبادل، وهذا ما كان في الخلفية المتسترة في القضية التي نشبت في مستوطنة عمانوئيل، ومهما حاولت المؤسسة الإسرائيلية التستر على هذه الأزمة فإنها لا يمكن أن تمنع تفجرها كليا في المستقبل.
أما الأزمة الثانية، فهي تلك المتعلقة بـ"الحريديم" ككل، وهذا ما تم التطرق له هنا في معالجات سابقة، فإسرائيل الرسمية قلقة جدا من تنامي هذا الجمهور بفعل التكاثر الطبيعي الذي تفوق نسبته ضعف التكاثر بين الجمهور العلماني في إسرائيل، وباتوا اليوم يسيطرون كلياً على مدن ومستوطنات بأكملها، وأبرز حضور لهم في القدس المحتلة ومنطقتها، وأينما يتكاثرون بسرعة، نجد في المقابل حركة نزوح للمجتمع العلماني اليهودي، وبشكل خاص إلى منطقة تل أبيب الكبرى.
ومشكلة المؤسسة مع هذا الجمهور هي أنه مجتمع تبلغ فيه نسبة المشاركة في العمل أدنى مستوى لها في إسرائيل، وهذا ما يمكن تسميته "بطالة إرادية"، ونسبة العاملين من بينهم تصل إلى %40، فهؤلاء يعيشون نمط حياة تقشفياً، ولكن حوالي %40 من مواردهم المالية هي من مخصصات اجتماعية تدفعها الخزينة العامة، كذلك فإنهم لا ينخرطون في جيش الاحتلال من منطلقات دينية، ولكن هذا لا يمنع إطلاقا تفشي السياسة اليمينية المتشددة بينهم. وينظر لهم المجتمع والمؤسسة الحاكمة على أنهم عبء مالي واقتصادي وحتى أمني على المجتمع، أما مصدر القلق الأساسي فيكمن بالأساس من توقعات المستقبل بشأن تكاثرهم، فهم اليوم يشكلون حوالي %14 من مجمل السكان، و%17 من مجمل اليهود، وتؤكد دراسات وأبحاث أن نسبة هؤلاء سترتفع حتى العام 2030 إلى ما بين %27 و%30 من الجمهور في إسرائيل، ولكن هذا يعني أنهم سيشكلون نسبة %37 وأكثر من اليهود أنفسهم. وهذه معطيات تقلق المؤسسة الإسرائيلية ليس فقط من الناحية الاقتصادية بل أيضا من ناحية طابع المجتمع في إسرائيل؛ لأن هؤلاء منذ سنوات طوال، وحينما كانت نسبتهم أقل بكثير، نجحوا في فرض مطالبهم الاجتماعية والمالية على المؤسسة، ومن بينها فرض قوانين دينية، يتذمّـر منها المجتمع العلماني، وحينما ستتضاعف نسبتهم، سيكون بإمكانهم الضغط أكثر، وهذا ما سيؤجِّج كثيرا هذا الجانب من الأزمات الداخلية في إسرائيل.
قلق كبير ظهر في وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال نشوب الأزمة في تلك المستوطنة، والقلق كله كان يشير إلى مستقبل التعامل مع هذا الجمهور، كذلك، كان استخفاف كبير بشكل "حل الوسط" والمؤقت جدا، لإنهاء تلك الأزمة؛ لأن الانطباع العام كان أن الحل مجرد تأجيل قصير للانفجار القادم.
هناك معرفة مسبقة في إسرائيل أنه مهما تم دفع الأزمات الداخلية جانبا، وهي ليست قليلة، فإنها لا بد أن تتفجر من جديد، وليس في أمد بعيد.