في معنى المفاوضات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الياس خوري
اخترع الاسرائيليون ما يمكن أن نطلق عليه اسم المفاوضات للمفاوضات، اي المفاوضات من دون هدف، بهدف اضاعة الوقت. لكن الفرق ان الاسرائيليين لا يضيّعون الوقت الا من اجل فرض امر واقع، او هكذا يعتقدون. اي انهم يمارسون لعبة التفاوض من اجل ارضاء الامريكيين والاوروبيين، لكنهم في الواقع لا يفاوضون، بل يتلاعبون بالمفاوض الفلسطيني من اجل الايحاء بأن التسوية ممكنة على المستوى النظري.
وهذا ما يجري اليوم في سياق ما يسمى المفاوضات غير المباشرة. اسرائيل تفرض تهويدا شاملا على القدس، وتفاوض. المهم ليس المفاوضات بل تهويد القدس، كي يجد المفاوض الفلسطيني نفسه يفاوض على لا شيء، لأن الموضوع تغيّر، ولم يعد من الممكن اعادة الساعة الى الوراء.
وباستثناء المفاوضات مع الجانب المصري، التي قادت الى الانسحاب من سيناء، وفق شروط مذلة، اخرجت مصر من نفسها ومن دورها العربي، فان الانسحابين الاسرائيليين الكبيرين تما من دون مفاوضات، وعبر خطوة آحادية لا تعترف بوجود الآخر. الانسحاب من جنوب لبنان والانسحاب الجزئي من غزة. وفي الحالين كانت اسرائيل تناور. في لبنان كان الانسحاب حتميا بعدما اثبتت المقاومة ان كلفة الاحتلال باهظة، وفي غزة كان الانسحاب ضروريا من اجل التفرّغ الكامل لشؤون الهيمنة على الضفة الغربية، وفرض التهويد الكامل على القدس.
في جبهة بلاد الشام، او ما كان يعرف باسم الجبهة الشرقية، لا تريد اسرائيل التفاوض، ولا تنسحب جيوشها الا لأهداف تكتيكية. وهذا ما قاد الى اشتعال الانتفاضة الثانية، وسيقود الى انتفاضة ثالثة.
السؤال ليس ماذا يفعل المفاوض الفلسطيني على طاولة المفاوضات، بل ماذا يفعل خارج الطاولة؟ قيادة السلطة الفلسطينية تعرف ان لا جدوى من المفاوضات، ولنفترض انها مضطرة، لأسباب تتعلق بالوضع الدولي، الى المشاركة في مفاوضات غير مباشرة ولا جدوى منها. سؤالي هو ماذا يجري خارج اطار التفاوض الذي سيقود كما يعرف الجميع الى لا شيء؟
سلام فياض يملك اقتراح بناء مؤسسات الدولة، كي يجد العالم نفسه امام امر واقع اسمه وجود دولة فلسطينية على ارض الواقع. رهان سلام فياض ليس من دون معنى، لكنه رهان ناقص. والحقيقة ان الرجل ليس وحده مسؤولا عن النقصان في مشروعه، بل لعل المسؤولية الكبرى تقع على عاتق شريكه الأقوى في السلطة، اي حركة فتح، وشريكه المضارب اي حركة حماس.
السؤال هو هل يستطيع فياض ان يعلن دولة من دون القدس؟ بالطبع لا. فدولة من دون العاصمة التاريخية لفلسطين لا معنى لها، بل ستتداعى لحظة ولادتها من الداخل، هذا اذا افترضنا ان الخارج سوف يدعم اعلانها، وهو امر مشكوك فيه.
بناء ما يسمى بمؤسسات الدولة لا يكفي، لأنه مرهون بالداعمين من جهة، ومهدد بالقوة العسكرية الاسرائيلية الباغية من جهة ثانية.
خطأ ياسر عرفات لم يكن بسبب اعتماده خياري المفاوضات والقتال في آن واحد. فهذه هي الاستراتيجية الوحيدة المنطقية. خطأه كان في البنية السياسية التنظيمية التي قادها معتقدا انه يستطيع تأسيس سلطة ولو تحت الاحتلال من جهة، ورهانه بأن قطار التسوية سوف يفرض على اسرائيل الانسحاب من الضفة وغزة والقدس داخل عملية سلام معقدة يمتزج فيها العمل الديبلوماسي بالمقاومة المسلحة، من جهة ثانية.
عملية السلام لا وجود لها، لأنها تصطدم بما يعتقد اغلبية الاسرائيليين بأنه من ثوابت وجودهم، اي بقضيتي الاستيطان والقدس.
لكن عرفات حافظ على خيار المقاومة الشعبية والمسلحة حتى النهاية، حين دفع حياته ثمنا لهذا الخيار.
المحيّر هو ان محمود عباس بدا منذ لحظة تسلمه السلطة خارج معادلة اكثر من خيار واحد. لم يقرأ عباس جيدا معنى الانسحاب الأحادي من غزة، الذي يعني ان اسرائيل لا تعترف بوجود شريك فلسطيني حتى وان كان مسالما ومستسلما، كما لم يقرأ نتائج الانتخابات التشريعية التي اعطت حماس الاكثرية البرلمانية، باعتبارها تصويتا احتجاجيا ضد الفساد وضد الغاء خيار المقاومة. بدلا من ان تستعيد فتح لغتها المقاومة، قامت السلطة بتفكيك كتائب شهداء الأقصى، واندفعت او دفعت الى صدام دموي مع حماس كانت نتيجته كارثية، وقاد الى سلطتين:
سلطة مشلولة وعاجزة في الضفة.
وسلطة - مقاومة محاصرة ومعنية ببناء امارتها الاسلامية في غزة.
في ظل هاتين السلطتين تستطيع اسرائيل ان تفاوض الى ما شاء الله، تناور كلامياً، وتبني حقائق على الأرض. والغريب ان القيادتين الفلسطينيتين تبدوان غير معنيتين في شكل جدي بهذا الواقع. اذ ان انقاذ القدس، يفترض ان يكون على رأس جدول الأعمال، ويقتضي بناء خطة مواجهة يومية تجعل من القضية عنوانا للمرحلة، وتفرض بذلك اولويات جديدة على العمل الوطني الفلسطيني.
على المفاوض الفلسطيني ان يعلم ان انسحابا اسرائيليا جزئيا من الضفة، لن يكون نتيجة المفاوضات، بل سيكون نقيض التفاوض، وبهدف خلق باندوستان مقفل في الضفة، يشبه باندوستان غزة، وبذا يتم تفكيك الحركة الوطنية الفلسطينية في شكل نهائي.
الأفق الوحيد هو بناء المقاومة من جديد، ومن دون اوهام. وهي مقاومة مديدة عليها مرة ثانية ليس مهمة مقارعة الاحتلال يوميا فقط، بل ايضا مهمة انقاذ المشرق العربي من سباته وانهياره، كي يتجدد الأمل بأن تستعاد فلسطين في وصفها قضية العرب وقضية مستقبلهم وكرامتهم.