ما بين السلطة والقوة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أحمد عبد الملك
يورد الكاتب محمد محفوظ في كتابه "الأمة والدولة" مقولة وردت في عهد المماليك على لسان "ابن جماعة قاضي القضاة" يدعو فيها إلى شرعية أي حاكم يصل الحكم بالقوة، حيث قال: "فإن خلا الوقت عن إمام، فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته، لينظم شمل المسلمين وجمع كلمتهم.. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول وصار الثاني إماماً، لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم". (انتهى).
توقفت كثيراً أمام هذه العبارة محاولاً إسقاط "مثاليتها" على الأحداث الجارية في العالم الإسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى العصور اللاحقة. وكيف أن القوة هي التي تحكم السلطة، وكيف أن السلطة قد "تجيّر" الدين من أجل استمراريتها وإن كانت غير شرعية. وهو أمر يختلف عن أدبيات المفهوم الإسلامي للسلطة، من حيث إنها قوة تعبّر عن رأي وعزيمة المجتمع الإسلامي لإقامة حكم الله في الأرض! وهي بطبيعة الحال الغطاء "المتلون" الذي تتخذه بعض الأنظمة لتسويغ إجراءاتها وتوجهاتها وأساليب إدارتها للمجتمع.
وقد تتجاهل العديد من الأنظمة أهداف السلطة الأساسية المتمثلة في إشاعة العدل والمساواة بين الناس والحفاظ على حرياتهم الأساسية، إلى جانب حفظ الأمن وصيانة كرامة الناس ضمن قواعد وقوانين تحدد العلاقة بين السلطة والمجتمع. وكلما تراجعت السلطة أو فرّطت في أي هدف من تلك الأهداف، هيأت مناخاً مناسباً لهزات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية.
ويرى العديد من الحكماء أن وسيلة السلطة في الحفاظ على قوتها وصيرورة الأمن في محيطها الجغرافي أن تضمن العمل المؤسسي! لأن إشراك أفراد المجتمع في السلطة والإدارة يعني تحمّل الجميع للمسؤولية -وليس السلطة وحدها- ومن هنا يسعى الجميع لاستقرار الكل ورفاهيته.
وللأسف، فإن العديد من الأنظمة في العالم العربي يتجاهل قوة العمل المؤسساتي، ويمارس "ديكتاتورية" الطرف الواحد الذي يمسك بكل خيوط اللعبة في البلاد، ويقولبها حسب أهوائه وهواياته! وتصبح السلطة هي المفكر والباني والمخطط والمعلم والمصنّع والمورّد والمصدّر، ونتيجة لذلك يتحمل المجتمع تبعات هذه السلطة من عدة أوجه، منها:
* بناء الدول بناءً سلطويّاً لا مجال للحوار فيه بين أبنائه أو بين هؤلاء الأبناء والسلطة.
* انتشار قيم الإدارة السلبية، ومظاهر الانتصار للعشيرة أو الطائفة، ما قد يساهم في تشطير المجتمع وإثارة القلاقل بين أبنائه.
* سوء إدارة الثروة، واستيلاء مجموعة من المتنفذين على خيرات البلاد ورمي الفتات لغيرهم، مع تحكمهم في شكل وأوجه الصرف من أموال الشعب.
* إخراس بعض الأصوات المنادية بالعدالة الإدارية والاجتماعية، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص -لغياب العمل المؤسسي- ومحاصرة العقول النيرة بكافة الوسائل.
* سن قوانين تؤكد تشطير المجتمع على أسس قومية أو عشائرية أو تاريخية، وهذا يؤثر على حقيقة التوجه الديمقراطي عند الانتخابات، حيث قد تؤكد القوانين، في هذه الحالة، على طبقية المجتمع.
* بث ثقافة عدم اليقين بين أفراد المجتمع. ذلك أن "الدولة الريعية" التي تؤَمّن بعض أساسيات الحياة للمجتمع، قد تفرض عليه قوانين مشددة تحرمه من المطالبة بحقوقه الأساسية، وبالتالي قد يتحول الفرد إلى مواطن سلبي، ويقضي حياته دونما أي اهتمام بشؤون مجتمعه، أو حتى الانخراط في العمل التطوعي. ومن هنا فإن ضعف منظمات المجتمع المدني ينبع من تلك الثقافة التي قد تبثها السلطة.
* غياب الشفافية والمحاسبة، في الوقت الذي قد يكثر فيه الفساد والاختلاسات المالية. ولقد شهدت منطقة الخليج أحداثاً مؤلمة في هذا الاتجاه! وتم الكشف عن البعض القليل من هذه المظاهر السلبية. بل إن بعض الدول أحياناً قد تتسامح مع المختلس! أما الذي يكشفه فقد يُنعت بـ"المشاكس"، ولربما قذفوا به إلى هيئة التقاعد وختموا عمره الافتراضي عند سن الخمسين!
* تأخر المشاريع الخاصة بالبنية التحتية في بعض الدول. وانشغال السلطة بقضايا أساسية، لكن مختلفة عن قضايا المجتمع، مثل البحث عن الاستثمارات الضخمة، وشراء الأسهم والعقارات في الدول الأوروبية، وشراء الأسلحة وعقد المعاهدات العسكرية، ودعم أجهزة الأمن، في الوقت الذي يحتاج فيه المجتمع إلى مراكز صحية جيدة، أو محطات توليد الكهرباء! هل من المعقول أن تنقطع الكهرباء عن بلد نفطي لأيام؟ ذلك أن الاستهلاك الشديد وإنارة الأبراج والمدن السكنية لم يأخذا في الاعتبار حجم التيار الكهربائي في البلاد! وهل من المعقول أن تكون شوارع بعض المدن الخليجية بهذا المستوى، مثل شوارع بعض المدن في إفريقيا أو أميركا الجنوبية؟ وهل حفر الشوارع المتكرر في العام لأكثر من ثلاث مرات ينبئ عن تخطيط سليم؟
إن السلطة التي لا تعتمد المشاركة، وإن كانت قوية، قد تنفرط من بين أصابعها خيوط اللعبة. ولابد من شراكة بين السلطة والمجتمع. كما أن إقامة حكم الله لا تعني الاستفراد؛ وتطبيق نظرية "ابن جماعة قاضي القضاة" في العهد المملوكي.