الامتحان العراقي للسياسة السورية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بشير موسى نافع
بعد شهور طوال من انعقاد الانتخابات البرلمانية الثانية في مارس الماضي، لم يزل التدافع على تشكيل الحكومة العراقية مستمراً. وبعجز السياسيين العراقيين عن التوافق على رئاسة الحكومة الجديدة وبنيتها، وانتقال الحكم بصورة شرعية وسلسلة، وتراجع الاهتمام الأميركي بالشأن الداخلي للعراق، تزداد أهمية الأدوار التي تلعبها دول الجوار العراقي. الواضح، بالطبع، ولأسباب عديدة، أن إيران تمسك بمقاليد الدور الأكثر أهمية في العراق، وأنها تبذل جهداً هائلاً لدعم وتعزيز هذا الدور. وإلى جانب إيران، وإن بتأثير أقل نسبياً، بدأت تركيا خلال الفترة القصيرة الماضية تعمل بصورة ملموسة من أجل التواجد في الساحة العراقية. ورغم الاتهامات المتكررة التي وجهتها إدارة بوش لسوريا، فالحقيقة أن دمشق لم تمارس دوراً مميزاً في العراق خلال السنوات التي تلت الغزو والاحتلال. ولكن رغبة سوريا الكبيرة في التخلص من المالكي، وتحسن موقعها الإقليمي، وعلاقاتها الوثيقة بإيران وتركيا، يضعها في موقع مؤثر في التدافعات التي يشهدها العراق الآن.
في مجملها، يمكن القول إن الدوافع خلف الاهتمام بالعراق هي في جوهرها دوافع استراتيجية، رغم وجود اختلاف واضح في مقاربة كل من إيران وتركيا للشأن العراقي. بنت إيران سياستها تجاه العراق منذ البداية على أساس طائفي، وجعلت من التحالف مع القوى السياسية الشيعية أداتها الرئيسة للتأثير السياسي والأمني والاقتصادي. ولكن تركيا اختارت نهجاً أكثر شمولاً، سواء في علاقاتها بكافة القوى السياسية والفئات، أو من حيث تأييدها لإعادة بناء الدولة العراقية على أساس وطني. ولكن الموقف السوري من العراق شابه دائماً قدر من الغموض وعدم الوضوح.
كما إيران وتركيا، يحمل العراق أهمية استراتيجية كبيرة لسوريا. تعتبر سوريا والعراق دولتي الثقل في الحزام الشمالي للجزيرة العربية؛ ومنذ ولد الكيانان في أعقاب الحرب العالمية الأولى وهما يتنافسان على الدور والقرار. كلاهما كان يدرك أن لا مستقبل لأحدهما دون الآخر، وأن وحدة البلدين ضرورة حيوية؛ ولكن أحدهما لم يكن لديه الاستعداد لتسليم قياده للآخر. هذا، ناهيك عن التدخلات الخارجية الكثيفة في العلاقات بين بغداد ودمشق. ولكن دوافع سوريا في العراق ليست استراتيجية وحسب؛ فرغم تراجع الالتزامات القومية للأنظمة العربية، فلا تزال سوريا تحرص على الوجه العربي القومي لمواقفها وسياساتها. وربما يمكن القول إن موقف سوريا المعارض للغزو الأميركي للعراق، الموقف الذي وضع نهاية للتحالف العربي الثلاثي بين سوريا ومصر والسعودية، أسس على اعتبارات استراتيجية وقومية في الآن نفسه.
رفض سوريا للغزو، وغضها النظر في بعض الأحيان عن حركة عناصر المقاومة العراقية عبر الحدود، عزز من صورتها العربية القومية. وبفشل المشروع الأميركي في العراق، حرص حتى حلفاء الأميركيين في بغداد على بناء علاقات وثيقة مع دمشق. وقد أسهم التغيير المتسارع في المناخ الاستراتيجي الإقليمي، سواء من حيث العلاقات مع طهران وأنقرة، أو من حيث الهزيمة الإسرائيلية في لبنان وفي الحرب على غزة، في تعزيز الثقة السورية بالنفس، وتوفير مساحة أكبر للتأثير السوري في العراق. ونظراً لأن الدولتين الأخريين من دول الجوار، اللتين تبديان اهتماماً واضحاً بالعراق، هما إيران وتركيا، وأن علاقات سوريا بكلتيهما تكاد تصل إلى حد التحالف، فمن المفترض أن لا تستشعر دمشق حرجا ما في سياستها تجاه العراق.
من وجهة النظر الاستراتيجية، لا بد أن تكون لسوريا مصلحة كبرى في استقرار العراق، في الحفاظ على وحدته، وفي عودته إلى مجاله العربي. فرغم أن إيقاع الهزيمة بالأميركيين وإفشال مشروعهم في العراق صب في مصلحة سوريا، فإن استمرار العنف في العراق بات مصدر تهديد لجواره العربي والإسلامي، بما في ذلك سوريا. ويواجه العراق منذ بداية الاحتلال مخاطر التشظي والانقسام، ليس فقط بفعل تمتع المنطقة الكردية في الشمال بحكم ذاتي واسع الصلاحيات، بل أيضاً لأن المجلس الأعلى، إحدى القوى الشيعية الرئيسة لا يزال يدعو إلى بناء الدولة العراقية على أسس فيدرالية، تبدو أقرب إلى الكونفيدرالية السياسية منها إلى اللامركزية الإدارية. وسوريا هي أيضاً مجتمع متنوع من العرب والأقلية الكردية، ومن المسيحيين والمسلمين، ومن السنة والعلويين والدروز. وانشطار العراق على ذاته لن يترك دولة في الجوار محصنة من مواجهة المصير نفسه. وليس ثمة شك، أن تعزيز روابط العراق العربية يضيف ثقلاً استراتيجياً جديداً لسوريا، مهما كانت التوترات العراقية- السورية التقليدية.
يشير مثل هذا الفهم للصلات السورية- العراقية، ولرؤية دمشق للأمور، إلى أن أهداف السياسية السورية في العراق لا بد أن تتمحور حول: انتهاء الاحتلال الأميركي للعراق في أسرع وقت ممكن؛ واستعادة العراق لحمته الوطنية وتراجع التيارات والقوى الطائفية- السياسية والقومية الانقسامية؛ ووضع حد للتدخلات الخارجية في الشأن العراقي؛ ونجاح العراق في القضاء على قوى ومجموعات العنف المسلحة ذات التوجه الطائفي أو الإثني؛ وتحرك العراق السريع نحو التعافي الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق الاستقرار. والواضح أن الوفود السياسية العراقية لدمشق، سمعت من القيادات السورية مثل هذه التوجهات. ولكن ما إن تعقدت المفاوضات حول تشكيل الحكومة العراقية الجديدة حتى برزت توجهات مختلفة في دمشق. فبدلاً من أن تدعم دمشق حكومة عراقية تقودها الكتلة ذات التوجه الوطني والعربي، يروج في سوريا لمرشح المجلس الأعلى لرئاسة الحكومة، بل يقوم المسؤولون السوريون بالضغط على القيادات العراقية التي تتردد على دمشق من أجل تخلي القائمة العراقية عن حقها الانتخابي في رئاسة الحكومة ودعم مرشح المجلس الأعلى.
يثير الموقف السوري الجديد أسئلة كبيرة في الساحة العراقية وفي بعض الأوساط العربية والسورية. فمن ناحية، يعتبر المجلس الأعلى واحداً من أكثر القوى السياسية العراقية طائفية وأقلها حرصا على هوية وانتماء العراق العربي؛ ودعوة المجلس وتبنيه لفكرة الدولة الفيدرالية تتعارض كلية مع كل من يرغب ويعمل من أجل محافظة العراق على وحدته. ومن ناحية أخرى، يبدو الخيار السوري في العراق كأنه يغلب العلاقة السورية- الإيرانية على العلاقة السورية- التركية، في الوقت الذي يمكن لسوريا أن تلعب دوراً أكثر إيجابية في تقريب وجهات النظر بين حليفيها الكبيرين، وبالتالي في تخفيف حدة التدخلات الخارجية في الشأن العراقي. كما يبدو الخيار السوري وكأنه يتجاهل المصالح العربية القومية في العراق، التي اعتبرت دائماً إحدى المحددات الرئيسة للسياسة السورية. المشكلة الأبرز في هذا السياق أن من الصعب إيجاد تفسير منطقي ومتماسك للموقف السوري.
ولأن أغلب عناصر الطبقة السياسية العراقية الجديدة تورط على هذا النحو أو ذاك في العلاقة مع الأميركيين قبل الاحتلال وبعده، فمن العسير اعتبار سجل المرشحين الأميركي بين محددات الموقف السوري. صعوبة العثور على تفسير منطقي للموقف السوري، قد يفتح الباب للتفسيرات التآمرية، والطائفية منها على وجه الخصوص؛ وهذا ما ينبغي على دمشق تجنبه أو حتى السماح ولو بنافذة صغيرة لبروزه. فكما تمثل أزمة العراق امتحاناً لأهله، وللعرب والمسلمين، هي امتحان لا يقل أهمية للسياسة السورية.