فيلم كاريوكا... هل هي أيقونة ثقافيّة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بيروت
لا تزال الراقصة المصرية الراحلة تحية كاريوكا "تسحر" بعض المثقفين والكتاب، فمنذ كتب عنها المفكر إدوارد سعيد، تتقاطر الأقلام التي تتحدث عن جوانب مهمة من حياتها، وليس أقلها علاقتها بالسياسة، ليصبح رقصها في عيون الرسامين أقرب الى الفن التشكيلي، وحركة خصرها في رأي الشعراء أكبر من ديوان شعر.
هذا ما تبينه شهادات قدمتها المخرجة اللبنانية المقيمة في مصر نبيهة لطفي في فيلمها عن "تحية" الذي عرض قبل مدة في أكثر من مهرجان، ويتضمن شهادات من محبي الفنانة مثل الرسام عادل السيوي والروائي صنع الله إبراهيم والمفكر الراحل محمود أمين العالم والكاتب رفعت السعيد والمخرج الراحل يوسف شاهين والكاتب صلاح عيسى... تكلم بعض المثقفين عن "فلسفة" رقص تحية وكيف أن الأخيرة حولت الرقص الى فكر كما حولت الجسد الى "لوحات تشكيلية فلسفية" (يبالغ بعضهم بأنها جعلت من التراب ذهباً)، ولم يتورع أحد المتحدثين عن وصفها بالفنانة التي تجاوزت الإيقاع ليس الإيقاع الموسيقي وإنما الإيقاع التشكيلي الذي أجبرته على التماهي فيها. هل ثمة مبالغة في التعاطي الثقافي مع تحية كاريوكا أم أنها تستحق الثناء؟ الإجابة في وصفها بأنها "أيقونة مصرية، فحين يتحول شخص الى أيقونة تتحول الكتابة حوله الى شيء من الالتباس، وتكثر التحليلات والتأويلات ويتسابق أصحاب الأقلام إلى تدوين الكتب...
نبيهة لطفي هي التي جمعت المفكر الإيديولوجي إدوارد سعيد بتحية كاريوكا في شقتها في الدقي التي شهدت الفصل الأخير من حياة الراقصة المصرية ومن أحداثها الصاخبة المتقلبة. كان ذلك أواخر الثمانينات عندما زار سعيد القاهرة بدعوة من فريال جبوري غزول لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية، فانطلق من فندق هيلتون الذي كان يقطن فيه مع نبيهة إلى مركز الثقافة السينمائية الكائن وسط البلد لجمع مواد توثيقية وأرشيفية عنها. وأصبحت مقالة سعيد عن تحية أشبه بـ{الأيقونة الثقافية"، وهي علامة على تلاقي الفكر "الرصين" بثقافة الجسد التي طالما كانت منبوذة بالنسبة إلى أهل الإيديولوجيا. وما لم ينتبه إليه كثير من الكتاب أن مقالة سعيد عن كاريوكا لم تكن أكثر من فقاعة، وهي تتضمن "تعصب" كاتب لشخصية يحبها في مقابل وصفه راقصات أخريات بالعاهرات، بل يتهم إحدى المطربات بالسحاق.
كان سعيد في مقالته عن تحية أقرب الى المستشرقين الذين طالما هاجمهم واتهمهم بشتى الاتهامات. لكن المشكلة أن المثقفين العرب يتعاملون مع كتابات بعض المفكرين كما لو أنه كلام القديسين، من دون التنقيب عن خلفيات ما يكتب، بل إنهم ينسون رقص كاريوكا لصالح كلمات سعيد.
الأرجح أن نبيهة في نظرتها السينمائية إلى كاريوكا سبقت سعيد في رأيه وقدمت صورة أكثر وضوحاً عن راقصة من الصف الأول، فهي تقول: "تحية كاريوكا لم تكن يوماً راقصة وفنانة فحسب، إنما كانت، أيضاً، أيقونة مصرية". وتضيف: "عند وصولي الى مصر سنة 1955، كانت تحية كاريوكا في ذروة نجاحها. وكنا كطلبة متأثرين بها، وعلى ارتباط معها بعلاقة ندية، إذ لم تتعامل معنا يوماً كنجمة إنما كمواطنة تكافح في سبيل بلدها. منذ ذاك الوقت صار في قلبي محبة لها، وحبي لها قادني إلى تحقيق فيلم عنها".
كاريوكا ليست راقصة عادية، لكنها ليست أسطورة، فهي المرأة المزواج التي تزوجت 13 مرة، متخطية بذلك الفنانة اللبنانية صباح، ودخلت السجن بتهمة مساعدة بعض المنشقين عن ثورة يوليو (تموز) قبل أن يُفرج عنها، ومرت بعشرات المنعطفات الضيقة، ولأن كلمة "كاريوكا" هي عنوان إحدى الرقصات الغربية التي تدربت عليها تحية فقد ارتبطت بها وصارت بعد ذلك لقبها المفضل. وثمة نوازع وطنية "يسارية" أهلتها للمشاركة في عمليات تهريب السلاح للفدائيين بمدن القناة، الإسماعيلية وبورسعيد والسويس وغيرها من بؤر اللهب والقتال.
هذا الجانب "الثقافي" من حياة كاريوكا لم يكن واضحاً لجمهورها كله قبل أن تكشف عنه نبيهة النقاب. يتضمن فيلم "كاريوكا" لقطات أرشيفية سواء ما تعلق منها باعتصام الفنانين الشهير ضد القانون "103" انتصاراً لحرية التعبير أو لقاءات نادرة لكاريوكا مع بديعة مصابني وسامية جمال ومعركتها الانتخابية التي أسفرت عن اختيارها نقيباً للممثلين في إحدى الدورات المهمة.
لن نتحدث عن مضمون فيلم نبيهة ومشوار كاريوكا وطفولتها وأزواجها وحياتها الشقية، بل نود التذكير بأن الشخصيات التي تتحول أيقونات هي نتاج الهالة أولا وأخيراً، وتحية أحد هذه النماذج، إذ استطاعت إدخال الرقص الشرقي في دائرة "العبق الثقافي" قبل أن ينحدر الى القعر الاستهلاكي.