جريدة الجرائد

العراق وكماشة الطائفية والمذهبية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

منح الصلح

كل أنواع الوجع تهون في عراق هذا الزمن بالقياس الى وجع الهوية، فكل عراقي ذي حد أدنى من الثقافة يردد اليوم قصيدة "طرطرا" الشهيرة للشاعر محمد مهدي الجواهري يخاطب فيها بلاده الممزقة طوائف وعرقيات قائلا:"أي طرطرا تطرطري تنصري تسنني تشيعي تكردي تعربي..."

لقد كان العراق دائما وعلى مر العصور أحد الأوطان العربية الأكثر اعتزازا بهويته الوطنية، فهو منذ أيام مهيار الديلمي يتساءل عما يدبر له ملهوفا حول تردي موقعه المتقدم بين العرب:

"أيا صاحبي أين وجه العراق وكيف غدا

صف لعيني غدا...

أسدّوا مسارب ليل العراق

أم صبغوا فجره أسودا؟"

لم يسلّم العراق يوما بالثانوية في رتبته بالقياس الى اي قطر عربي آخر، فالعصر العباسي بزعامته كان أزهى العصور الاسلامية، ومن قبل الاسلام كان عصر بابل وآشور هو الأزهى في العصور القديمة. وفي الحرب العالمية الثانية كان رئيس حكومة العراق رشيد عالي الكيلاني بالنسبة الى سائر الحكام العرب ما كان عبدالناصر في فترة لاحقة ولم يكن يأتي ذكر مصر والسعودية الا ويأتي معهما ذكر العراق.

واذا كان الشيعة العرب يذهبون الى النجف لزيارة العتبات وديار الحسن والحسين فإن السنة العرب كانوا يذهبون ايضا الى العراق كمرجعية وسند لنهضة القومية العربية وفي الحالتين كان هناك تكامل وتساند تقوى بهما وتعتز أمة العرب بمذاهبها وطوائفها وأديانها وطموحاتها في الوحدة والتقدم.

ولابد هنا من التسجيل أنّه كان هناك دائما من ينظر الى العراق دون غيره على أنّه بروسيا العرب فكما نظر الألمان الى بروسيا على انّها قاطرتهم في رحلة المانيا الى المجد كذلك نظر العرب في عصر القومية الى العراق الهاشمي. وقبل أن تنشأ الناصرية بزعامة عبدالناصر، كانت قد ظهرت القومية العربية بزعامة الهاشميين في العراق وربما أيضا في سورية أيام وجود فيصل الهاشمي فيها.

ومنذ أن اختير فيصل الأول الهاشمي ملكا على سورية بعيد الحرب العالمية الأولى، رافقت ذلك الاختيار تحركات سياسية لنخب وطلائع عربية في بلدان شتى كسورية ولبنان وفلسطين والعراق وغيره ترى في توليه حكم سورية مشروع مملكة عربية هي عين المملكة التي حلم بها والده الحسين بن علي وهو في الحجاز مع فارق أنها مبدئيا مملكة على الشمال العربي وصولا الى الحدود التركية الجنوبية في الاناضول.

ولا ننسى هنا أن مصر لم تكن تقدمت بطموحاتها بعد بحيث تعتبر نفسها دولة زعامة للوطن العربي ككل، فحتى تلك الايام كانت القاهرة تنظر الى نفسها على أنّها قطر مختلف عن بقية الأقطار العربية وعرشها أشبه بالعرش التركي في اسطنبول ، وقد كان اغلب أمراء مصر يعيشون في القاهرة واسطنبول ولهم في العاصمتين دور وقصور وعلاقات، وكل المشاريع التي كانت تقوم بالتعاون مع الانكليز وملوك وأثرياء العرب ما كانت لمصر علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد.

واذا كان إبراهيم بن محمد علي قد بدأ يتحدث عن ضرورة الاهتمام بالمنطقة العربية وصولا الى حدود الأناضول شمالي سوري فانه عاد في النهاية الى التبشير بضرورة تركيز الاهتمام المصري على مصر بالذات وامتداداتها الافريقية.

من المؤسف أن تكون الأيدي الدولية والعصبيات الطائفية هما القوتين الوحيدتين اللتين تبرزان منذ مدة غير قصيرة على الساحة العراقية وعمليا يتأكد أكثر فأكثر أن التنسيق بينهما لا يتم بالشكل والروحية المطلوبين. وحتى الآن يبدو أن الطائفية والمذهبية قادرتان على تعطيل كل مسعى هادف الى تطبيع الأحوال المدنية والسياسية في العراق.

وحدهما هاتان الطائفية والمذهبية تبدوان مالكتيْ الإذن بالمرور أو الاجهاض لحركة التقدم بالعراق الى أمام.

الشارع السياسي المستفيد وحده من كل ما يجري اليوم على الساحة العراقية هو شارع الأحزاب والقوى السياسية والعقائدية. صحيح أن الانتخابات جرت بمشاركة الجميع السنة انتخبوا من يريدون والشيعة من يريدون وكذلك الأكراد الا أن الحد الأدنى من الحراك السياسي العام والمشترك لم يتحقق. فحتى الآن لم تتشكل حكومة والخلاف قوي ويتفاقم حول الحصص.

لم يكن العراق يوما في تاريخه قليل الاحلام والأدوار مثله الآن. فيمينيوه كانوا في عصر فيصل وغازي ورشيد عالي الكيلاني طليعة القوميين العرب حاملي راية الوحدة العربية ، ويساريوه كانوا واستمروا من بين أبرز اليساريين العرب وقد كان العراق حجر الزاوية عند انشاء جامعة الدول العربية فهو إن لم يكن الأول في الدعوة الى انشائها الا أنّه بالتأكيد من الابرز بين دولها. وكذلك مثقفوه وعلماؤه وشعراؤه كانوا باستمرار في مقدمة المبدعين من أبناء أمتهم والمنطقة وحين لا يغزر العدد يعوض المستوى الابداعي للأفراد الاستثنائيين.

ولا ينسى صاحب هذا المقال أنّه أثناء زيارة له الى العراق ذهب الى المتحف العراقي في بغداد فلفت نظره كثرة الاشارات في أماكن متعددة من المتحف الفسيح الى أن المعروض هو أقدم ما صنعه الانسان من ابتكارات ومخترعات في هذا النوع أو ذاك من إنتاج العقل البشري، ولم أتمالك من ان أقول للدليل الخبير الذي كان يطوف بي في المعرض إن ما شاهدته جعلني أعتقد أن العراق كان في تاريخ هذا العالم بلد البدايات في سلم ارتقاء المجتمعات البشرية. فما كان من صاحبي الا ان أجاب أن العراق كان فعلًا بلد البدايات في تقدم البشرية مضيفا أن بداية التمدن البشري كانت كما يؤكد المختصون في بلاد بابل وآشور وأنّه هناك بدأت رحلة تأنسن الانسان بالمعنى الحضاري للكلمة!

ولكن كلّ هذا المجد التاريخي محجوب الان بمشهد الانقسامات السياسية والتفريط بالسيادة ولاسيما المذهبيات الحادة على نحو لم تعرفه الا بلدان قليلة في العالم. والواقع أن كلمتيْ القومية واليسار لم يجر التداول بهما في وصف الحياة السياسية في اي وطن عربي كما وصفت بهما الحياة السياسية العراقية لمدة طويلة من الزمن. وفي الامثال العربية: لا يأتي الترياق الا من العراق. وهكذا استمر إيمان الشعوب العربية على مر الايام، بل المثقفون بصورة خاصة، قوميوهم ويساريوهم على حد سواء.

ان ما يجري في العراق في هذه الايام هو محاولة تصالح بين اطراف مفترض انها متصالحة، ولكن هذه الاطراف لا تبدو مقتنعة ان تصالحها يقويها.

وكم كان وجه العراق اطل على التلفزيون بشكل ابهى واوقر لو ان الشخصيات العراقية المعروفة التي تناولت الحديث عن العراق لم تحصر كلامها في نقد طبقة سياسية معينة او نزعات جهوية او طائفية، بل استحضرت تاريخ العراق النهضوي بكل احزابه لا سيما احزاب الشباب التغييري الفاعل الذين مثلوا نزوع العراق الى لعب دور قيادي في عالمه العربي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف