جريدة الجرائد

مصر وفرنسا دولتان أم حالتان؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

جميل مطر

انفجرت فضيحة بيتينكور في وقت كانت أعصاب الفرنسيين تحترق غضباً على فضيحة أخرى أشد وقعاً وأكثر إساءة لسمعة فرنسا، إنها فضيحة الخلاف المدوي الذي نشب داخل فريق كرة القدم الفرنسي المشارك في دورة جنوب إفريقيا . لم تكن الهزيمة السبب الرئيسي للغضب بقدر ما كانت الطريقة التي تصرف بها اللاعبون مع مدرب الفريق، ومع بعضهم بعضاً، والطريقة التي تصرفت بها وزيرة الدولة للشؤون الرياضية راما يادي التي رافقت الفريق . يلفت الانتباه أن الوزيرة نصف الإفريقية لا يتجاوز عمرها الثالثة والثلاثين وتردد أثناء الأزمة أنها انتقدت نزول الفريق في فندق ldquo;خمسة نجومrdquo;، وأن مكتبها في باريس حجز لها في فندق مماثل قبل أن تنتقل منه إلى القنصلية الفرنسية للمبيت فيها . تقول صحف فرنسية إن الوزيرة السمراء لم تنتقل من فندقها المتميز مع موظفي مكتبها إلا بعد أن وصلتها انتقادات من باريس . .

كانت فضيحة العلاقات داخل فريق الكرة فرصة لتشن وسائل الإعلام حملة على الفساد الذي خرب الرياضة في فرنسا بعد أن كاد يخرب كل شيء آخر . وصفت إحدى الصحف ساخرة تمرد الرياضيين بأنه أول مظاهرة في التاريخ يقوم بها أثرياء من أصحاب الملايين، باعتبار أن الرياضيين الفرنسيين كغيرهم من اللاعبين في دول أخرى أصبحوا من طبقة الأثرياء، ولكن أيضاً باعتبار أن المواطن الفرنسي العادي لا ينظر بعطف إلى ldquo;الأغنياء الجددrdquo; بشكل عام، وبالتأكيد يكره هؤلاء الذين يتفاخرون بثروتهم المفاجئة ويتصرفون تصرفات غير لائقة .

اكتشفت مع ذلك، من خلال أحاديث مع مفكرين منشغلين بالهم الفرنسي العام أن للقضية أبعاداً أخرى . اكتشفت أن الفريق الفرنسي الذي لعب في جنوب إفريقيا يكاد يكون ممثلاً خير تمثيل لفرنسا الجديدة . بمعنى آخر، ضم الفريق لاعبين من أصول أوروبية بيضاء، ولاعبين من أصول إفريقية سوداء، وآخرين من أصول عربية سمراء . ويؤكد قطاع كبير من المفكرين، أو على الأقل من العينة الصغيرة التي اختلطت بها، أن ldquo;فيروسrdquo; العنصرية والطائفية الذي يجتاح أنحاء شتى من أوروبا أصاب فريق الكرة الفرنسي فانهزم وجلب على فرنسا العار، وأضاف إلى أوجه القصور في فرنسا وجهاً قبيحاً . من ناحية أخرى، فقد اللاعبون شعبيتهم ليس فقط لتصرفاتهم الخرقاء وتفاخرهم بالثروة، ولكن أيضاً بسبب مشكلة ldquo;الأنا المتضخمةrdquo; في الثقافة الجديدة للعبة كرة القدم وهي ldquo;الأناrdquo; التي أثارت، حسب تعبير أحد الإعلاميين ، ldquo;قرفrdquo; قطاعات واسعة في النخبة المثقفة في باريس .

نذكر ويذكرون لساركوزي العنف الذي استخدمه ضد احتجاجات سكان الضواحي من أصول إفريقية وعربية عندما كان وزيراً للداخلية في حكومة الرئيس شيراك . وعندما بدأ يشكل حكومته فور انتخابه رئيساً قيل إنه سيختار رشيدة داتي المغاربية الأصل وزيرة للعدل . لم يكن معروفاً عن رشيدة كفاءة معينة أو خبرة فائقة . أنا شخصياً كنت واحداً من مجموعة لم يفاجئها اختيار رشيدة داتي، لأننا كنا نعرف شيئاً عن علاقتها القوية بنيكولا ساركوزي وزوجته السابقة سيسيليا التي ألحت على تعيينها وزيرة . ما لم يكن معروفاً على نطاق واسع هو أن رشيدة كانت حاضرة وبقوة في الفترة الحرجة حين وقعت سيسيليا في حب ريتشار آتياس أحد أشهر رجال العلاقات العامة في كل أوروبا . بذلت رشيدة جهداً في محاولة إقناع سيسيليا بتأجيل طلاقها من نيكولا إلى ما بعد توليه المنصب وشجعتها على أن تستخدم شعبيتها ونفوذها لكسب التأييد له . وبالفعل بقيت سيسيليا إلى جانب رجل كانت تكرهه حتى فوزه . وفي النهاية وقبل رحيلها مع عشيقها إلى الولايات المتحدة طلبت سيسيليا من نيكولا تعيين رشيدة في الحكومة .

خرجت رشيدة من الوزارة غير مأسوف عليها بعد أن فقدت ثقة الرئيس وخاصمت زوجته الجديدة كارلا، وتخلت عنها القيادات الشعبية والسياسية من أصول مغاربية وإسلامية بعد أن اتخذت عدة مواقف ضدهم وتحالفت مع قيادات الجالية اليهودية، واندمجت في مجتمعهم المغلق عادة، ودخلت في علاقات عمل مع رجال أعمال، ثم عادت تمارس وظيفة رئاسة الحي السابع في باريس وهي الآن تبحث عن عمل إضافي يدر دخلا أوفر . لا يفوتني أن أذكر أن أبواباً عديدة حاولت رشيدة طرقها لم تفتح لها تفادياً لإغضاب كارلا، وبخاصة بعد أن تردد أن رشيدة مسؤولة عن شائعات هزت فرنسا تحدثت عن خلافات بين كارلا ونيكولا وعن أمور كثيرة تتعلق بكل منهما على حدة .

استمرت أحاديث الفضائح، وحاولت بجهد استدراج الأصدقاء والمعارف إلى أحاديث أخرى ولعلي أفلحت .

لم تكن سهلة محاولات إقناع الضيوف الذين أسعدوني وقبلوا دعوتي، أو إقناع المضيفين الذين خصصوا وقتاً وجهداً لاستضافتي مع آخرين، بالتطرق إلى قضايا أخرى غير موضوعات الفضائح والفساد وانهيارات منظومة القيم في فرنسا .

ذهبت إلى فرنسا، بينما أوروبا بأسرها تعاني تداعيات أزمة مالية حادة وعجز فادح في موازناتها والعلاقات الألمانية الفرنسية ترزح من جديد تحت ضغوط الشكوك التقليدية، وبينما يستعر بين القيادات السياسية في إيطاليا وفرنسا تنافس حاد على خفة الظل ووفرة الجاذبية للجنس الآخر، وكفاءة التحكم في وسائط الإعلام وتشويه صور المعارضين السياسيين، ذهبت وفي الذهن أسئلة حائرة عن حقيقة العلاقات بين مصر وفرنسا، وجدوى هذه العلاقات بالنسبة إلى شعبي البلدين .

فشلت في الإقناع معظم الوقت، ونجحت في آخر الوقت، استمرت أحاديث الفساد وسوء الإدارة والعجز في الأداء . وزير الفرانكفونية استأجروا له طائرة خاصة تكلفت 000 .130 يورو لأداء مهمة رسمية في دولة من دول الكاريبي، بينما لا تتجاوز قيمة بطاقة السفر على طائرة تجارية 8000 يورو . وزير آخر (كريستيان بلانسيه) أنفق من ميزانية وزارته مبلغ 000 .12 يورو على شراء علب سيجار من النوع الفاخر الذي يدخنه بشراهة . وفضيلة عمارة، الوزيرة من أصل مغاربي والرئيسة السابقة لمؤسسة ldquo;لا عاهرات ولا ساقطاتrdquo;، قامت بتأجير أو إعارة شقتها الحكومية إلى شقيقها وعائلتها ليسكنوا فيها .

يحدث هذا وكثير غيره في وقت صدرت فيه تعليمات السيد الرئيس بالتخلص من 000 .10 سيارة حكومية و700 شقة ومنتجع لسكن الوزراء وكبار المسؤولين . رائحة الفساد تزكم الأنوف، وتناقضات الحكم في هذا الشأن تزيد زكامها . فالرئيس الذي أصدر أوامره إلى فرانسوا فيون رئيس الوزراء بعمل كل ما من شأنه خفض النفقات الحكومية واستخدم لهجة حاسمة وغاضبة حين قال في رسالته إلى رئيس وزرائه، ldquo;لا أريد أن أرى أموال دافعي الضرائب تسدد فواتير السيجار والطائرات الخاصة والشقق السرية والمنتجعات الشتوية والصيفية . أريد أن أرى تقليصاً في عدد المرافقين للوزراء، وأراهم يستخدمون القطارات في التنقل داخل فرنساrdquo;، ووجه بأن ينزل الرسميون الفرنسيون في ضيافة سفراء فرنسا وقناصلها أو في المباني الحكومية في الخارج، وألا يستخدموا الفنادق الفاخرة . .هذا الرئيس فات عليه أو على مساعديه أمر بالغ الأهمية .

لاحظ الفرنسيون كما تلاحظ شعوب كثيرة تعيش هذا العصر، عصر الفساد الأعظم، أن تعليمات السيد الرئيس لم تتضمن تخفيضات في الإنفاق على قصور الرئاسة أو مصيف الرئيس في بريجانسو، وفي شاتو دي رامبوييه في إيل دي فرانس . ولم تشر إلى الطائرة الجديدة ال ldquo;إيرباص A330rdquo; المخصصة لرحلاته، وثمنها يزيد على 220 مليون دولار . ويضيف نائب عن الحزب الاشتراكي إلى قائمة بذخ الرئيس الطلب الذي تقدم به ساركوزي لزيادة رواتبه بنسبة 170 في المائة .

هناك غضب لا شك في وجوده في دوائر الفكر والثقافة، كثيرون يعتبرون نيكولا ساركوزي الضامن الأول للفساد والفاسدين وحامي مكاسبهم وداعم جهودهم . يتهمونه بأنه المسؤول عما آلت إليه الأحوال في فرنسا، قال لي أستاذ جامعي إن ساركوزي أنجز في أقل من ثلاث سنوات حجم تخريب في فرنسا لم ينجز مثله كافة الرؤساء الذين خدموا في ظل الجمهورية الخامسة على امتداد ثلاثين عاماً أو يزيد، وأجرى أحد الكتّاب الصحافيين المرموقين مقارنة بين فريق الكرة الذي فاز عام 1998 وفريق الكرة الذي عاد بالفضيحة قبل أسبوعين . قال إن الأول كان في تشكيله وأدائه وعلاقاته يعبر عن درجة لا بأس بها من الاندماج الاجتماعي في فرنسا، ويعبّر أيضاً عن توافر درجة كبيرة من التفاؤل بمستقبل فرنسا . الفريق الثاني الذي لعب في جنوب إفريقيا عبر هو الآخر أحسن تعبير عن حالة فرنسا الراهنة: تشرذم ديني وعرقي، أجواء معادية للعرب والمسلمين، حالة عصبية ضد رموز المهاجرين من شمال إفريقيا، وضد رموز العولمة في قطاع المصارف والمضاربات وضد لاعبي كرة القدم الذين يحصلون على رواتب هائلة لا تقارن بما يحصل عليه المثقفون والأكاديميون الفرنسيون . أضف إلى كل هذا حال الإحباط الذي خيم على الفريق وحال الإحباط العام الذي يخيم على العاصمة الفرنسية .

***

سمعت آلان جوبيه وزير الخارجية الأسبق يقول إن فرنسا اليوم أسوأ حالاً مما كانت عليه عام 1997 . قال إن سياسات الحكومة الحالية تسببت في ldquo;بعثرةrdquo; الوطن، وستترك فرنسا أمام تحديات أكبر ووضع أشد تعقيداً وعجز مالي هائل . آخرون ضموا صوتهم إلى صوت آلان جوبيه معترضين على أن يكون التدخل في أعمال اتحاد كرة القدم إحدى مهام رئيس الجمهورية . أذهلتني دقة وثراء التعبير الذي استخدمه جوبيه لوصف نتائج سياسات ساركوزي ldquo;بعثرة الوطنrdquo; . ألا تصف عبارة ldquo;بعثرة وطنrdquo; حال مصر في شهورها الأخيرة وصفاً دقيقاً؟ ثم تشعر بمدى التدهور في أوضاع فرنسا ومسؤولية الرئيس ساركوزي شخصياً عن هذا التدهور عندما تسمع جان بيير رافاران رئيس الوزراء السابق يقول ldquo;سيكون مفيداً للرئيس أن يتكلمrdquo;، وعندما تقرأ تصريحاً لمارتن أوبري زعيمة الحزب الاشتراكي تقول فيه ldquo;توجد في فرنسا الآن أزمة ثقة خطيرةrdquo; .

لا تخفى على الزائر لفرنسا حقيقة أن شعبية رئيس الدولة منحسرة، والقول إنها بلغت درجة من التدني لم تبلغه شعبية رئيس سابق للجمهورية قول لا مبالغة فيه . سمعت عن كراهية أغلبية الفرنسيين لرجل سوف يتسبب في أن يجعلهم يستمرون في العمل إلى ما بعد سن الستين ليستحقوا تقاعداً كاملاً . وسمعت عن غضب الطبقة السياسية التي حكمت فرنسا على امتداد الأجيال، بسبب محاولته نسف قواعد هذه الطبقة واستبدال طبقة أخرى بها تكون من صنعه هو وليس من صنع مؤسسات النخبة . المعروف مثلاً أن الأكثرية العظمى من كبار رجال الإدارة والسياسة والدبلوماسية وأصحاب المناصب الكبرى تتكون عادة من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة ENA، ولم يجر العرف على أن يستعين الرئيس وغيره من قادة الدولة بخريجي معاهد أقل مستوى أو سمعة، وهو بالضبط عكس ما فعله نيكولا ساركوزي الذي شجع إدارة الدولة على تجنيد كبار موظفيها من خريجي كليات ومعاهد أخرى أقل مستوى . لذلك لا أرى مبالغة في تصريح مسيو جوبيه الذي يحذر فيه من انفراط مؤسسات فرنسا القيادية والسياسية وتدهور القيم . ونظراً لاهتمامي بانهيارات القيم في بلدي وبلاد أخرى انتهزت الفرصة وسألت عن كوشنير وزير الخارجية الغائب معظم الوقت عن الصورة . جاءني الرد بأن ساركوزي انتزع اختصاصات كوشنير لنفسه يساعده كلود جيان وجان دافيد لوفيت . وجاءني رد آخر من دبلوماسي مخضرم قال إن كوشنير كان مثل فقاعة هواء . وفقاعات الهواء لا تعيش طويلاً وهي قد تخدع بعض الناس بعض الوقت، ولكن لن تخدع كل الناس طول الوقت . أذكر جيداً صوراً لكوشنير في البوسنة يحمل الدقيق على ظهره ليطعم الفقراء، وعندما أصبح وزيراً وقف ضد محاولات إنقاذ الفلسطينيين المحاصرين وغيرهم من العرب المأزومين .

من ناحية أخرى، كان واضحاً لي، ولغيري، أن الاستعدادات للترشيح لانتخابات الرئاسة القادمة في فرنسا بدأت مبكراً على غير العادة . وفي الواقع لم تكن عودة مسيو ديفيليبان رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق إلى الساحة السياسية سوى إعلان عن أن اليمين الفرنسي لم يعد يتحمل إخفافات ساركوزي . يكفيه أن الرئيس، بسياساته المتطرفة ضد الفرنسيين من أصول إفريقية وعربية وضد القضايا العربية وبخاصة القضية الفلسطينية، ومواقفه المتشددة ضد إيران ودعمه لسياسات التوحش الرأسمالي، شجع تيارات التطرف اليميني بشكل عام وجعل حزب جان - ماري لوبان أقوى مما هو في الواقع، الأمر الذي ينذر بنزوح أصوات كثيرة من أحزاب اليمين إلى جهة اليمين المتشدد في الانتخابات المقبلة .

***

كثيراً ما تكون سخرية الشعوب مرّة . قالت لي سيدة فرنسية ldquo;ندفع ثمن عقدة ساركوزي بسبب قصر قامته، نحن أمة لم نحترم إلا الزعماء طوال القامة، نعتقد، وربما عن حق، أن القامة الطويلة للزعيم ترفع قامة الأمة . ديغول كان طويل القامة وهكذا كان جاك شيراك ومن قبله جيسكار ديستان وإن ليس بنفس الطول . والآن يستعد ديفيليبان وهو أيضاً فارع الطول بالإضافة إلى اعتماده على تاريخ مشرف في المواقف الدولية في مواجهة الولايات المتحدة وانحيازه إلى حقوق الأقليات في فرنساrdquo; . ختمت الأستاذة كلامها بالقول، إن ساركوزي أخطأ حين سلم حق اختيار أصدقاء القصر والبلاط المقربين، وبالتالي المؤثرين في السياسة، إلى السيدة كارلا بروني تيديسكي . المعروف أن كارلا لا تخفي تفضيلها صحبة هؤلاء الحواريين الذين يلتفون حولها على كبار المثقفين والمستشارين . هؤلاء يقال إن الرئيس يلتقي ببعضهم ثلاث مرات في الأسبوع، أي في الليالي التي يبيت فيها في بيت السيدة كارلا .

***

حملت معي إلى باريس أسئلة عن التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية الفرنسية في عهد حكومة الرئيس ساركوزي، ذهبت وأنا أعرف مسبقاً أن الفرنسيين في أحوال عادية يعشقون الحديث عن السياسة الخارجية . تصادف هذه المرة أنني كنت هناك وحالة الحنين مستعرة، وحديث الأمجاد يعلو فوق أي حديث كرد فعل مفهوم على حال الإحباط وزحمة الفضائح . ولما كنت حريصاً على الاستماع إلى آراء فرنسية في مسيرة السياسة الخارجية لحكومة الرئيس ساركوزي، سعيت إلى تدبير لقاء فطور مع شخصية لامعة في دوائر صنع السياسة الخارجية .

قضينا الدقائق الأولى نتبادل الرأي حول حرارة الجو التي بدت مرتفعة على غير عادتها في ساعة مبكرة من ساعات الصباح، وقبل أن ننتهي من شرب عصير البرتقال المثلج وننتقل إلى القهوة الفرنسية التي أعرف عن ثقة وتجربة وإدمان أن قهوة أخرى لا تعادلها في النكهة أو القدرة على تنشيط الذهن، وفي نفس واحد طلب كل منا من الآخر تقديم تفسيره لظاهرة الزيارات الرسمية المتكررة التي يقوم بها الرئيس المصري لفرنسا . قال رفيق الإفطار إنه لم يحسبها حساباً دقيقاً، ولكنه يظن أن الرئيس المصري زار فرنسا عدداً من المرات ربما أكثر من أنجيلا ميركل، مع العلم أن هناك اتفاقات مكتوبة وعرفية تفرض على زعيمي ألمانيا وفرنسا الالتقاء مرات عديدة خلال العام . ولا شك أنه يوجد بين ألمانيا وفرنسا من مشكلات جوار ودفاع واقتصاد ومصالح أوروبية واستراتيجية دولية وقضايا تكامل أوروبي وهجرة، ما يبرر عقد هذه اللقاءات العديدة بين المسؤولين الألمان والفرنسيين على اختلاف مراتبهم وليس فقط على مستوى القيادة الأعلى . يعرف صديقي وأعرف أنا أيضاً أنه لا توجد بين مصر وفرنسا من القضايا والمشكلات ما يستدعي هذا العدد من اللقاءات على مستوى الرئاسة، وهو عدد غير مسبوق في العلاقات العادية بين الدول، وبخاصة إذا لاحظنا أنه لا تعقد اجتماعات على مستويات أدنى، ما يعنى أن ما يدور في لقاءات القمة لا يستدعي أو يستحق المتابعة .

غريباً كان أمر هذا الصديق الفرنسي، أعرف الكثير عن سعة اطلاعه وأسمع أكثر عن تأثيره الواسع في صنع بعض سياسات فرنسا الخارجية، وتأكدت من كثافة شبكة اتصالاته في الداخل والخارج، ومع ذلك وجدته يقف حائراً أمام سؤالي عن ماهية الموضوعات التي يناقشها الرئيسان أو يتفاوضان عليها ويقرران أمراً لا نعرفه بشأنها . يعترف بأن هذا السؤال تصدر قائمة الأسئلة التي كان ينوي طرحها خلال لقائنا، وكان يأمل أن يجد عندي إجابات عنها، قال إنه بحث ونقب ولم يجد، بل إنه لم يعثر على عائد ملموس ومؤثر في قوة الدولتين ومكانتيهما وتأثيرهما داخل المحيط الإقليمي لكل منهما نتيجة هذه اللقاءات المتكررة . كل ما خرج به هو أن نفوذ الدولتين حسب معايير كثيرة ينحسر، وأن الرئيسين، حسب معايير أيضاً كثيرة، يواجهان مرحلة لعلها الأسوأ في عهد كل منهما .

انتقلنا إلى تفاصيل قضايا في السياسة الخارجية الفرنسية، تحدثنا عن تدهور موقف فرنسا في الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo;، فسمعت منه عبارة ترددت في أحاديث كثيرة جرت الليلة السابقة، قال إن السياسة الخارجية الفرنسية خاضعة الآن لنفوذ اليهود أكثر من أي مرحلة سابقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . إن ساركوزي نفسه لا يخفي إيمانه بما تمثله ldquo;إسرائيلrdquo;، وسخطه على العرب والفلسطينيين، ولا أقول كراهيته لهم وهي الكلمة التي سمعتها من أكثر من شخص . أشهد أنني حرت في تقرير إن كنت سعدت أم حزنت بتعليق لصديق فرنسي قال فيه . . ldquo;على كل حال . . نحن نحسدكم على مساحة الحرية التي تتمتعون بها في بلادكم . أنتم كإعلاميين وأكاديميين تستطيعون انتقاد ldquo;إسرائيلrdquo; علانية في مصر، أما نحن فلا نستطيعrdquo; .

ومع ذلك سمعت انتقاداً للسياسة الخارجية المصرية من ضيف انضم متأخراً إلى مائدة الإفطار وله علاقة بدوائر الإعلام الفرنسية . قال الضيف إنه يسمع من أصدقاء له في الخارجية الفرنسية الشكوى من أن انسحاب مصر من العمل الإقليمي في الشرق الأوسط أضاف عبئاً إلى أعباء كثيرة تقع الآن على عاتق السياسة الخارجية الفرنسية . اختار الضيف نماذج لهذه الأعباء منها بروز دور لإيران لم تكن لتستحقه لولا غياب مصر، ومنها أيضاً أزمات السودان والقرن الإفريقي المتلاحقة، وحال الفزع شبه الدائم الذي تعيش فيه دول الخليج وشعوبه، ومنها أحوال المشرق العربي، ما اضطر فرنسا إلى مضاعفة جهودها وتدخلها في لبنان ودفعها لدعم الدور السوري في شؤون المنطقة .

أضاف الضيف ldquo;ولا أخفيك أن عدداً من المسؤولين الفرنسيين القريبين من الرئيس سعداء، لأن انشغال تركيا بالشؤون العربية وتوتر علاقاتها ب ldquo;إسرائيلrdquo; أثبت قوة حجة فرنسا للحيلولة ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فالاتحاد لن يسمح بانضمام دولة تعادي ldquo;إسرائيلrdquo; . إنه الشرط غير المعلن ldquo;في وثائق الاتحادrdquo; . لذلك بدت مألوفة تحية أحد الساسة الفرنسيين التقيت معه على العشاء في اليوم نفسه، حين بادرني أثناء ترحيبه بالقول ldquo;هنيئاً لكم بتركيا، نشكركم لأنكم أتحتم لها الفرصة لتكشف حقيقة نواياها تجاه ldquo;إسرائيلrdquo; . كانت فرصة ذهبية عرفنا من خلالها أن تركيا لا تصلح إطلاقاً لعضوية الاتحاد الأوروبيrdquo; . قلت ولكنها عضو في الناتو وستبقى عضواً . جاء الرد سريعاً ldquo;الناتو أمر مختلف، لأنه يجمعكم، يهوداً وعرباً ومسلمين، بناrdquo; .

هكذا قادتني الظروف، ولكن في دولة غير عربية، لأسمع انتقاداً للسياسة الخارجية المصرية التي تسببت في انعزال مصر وانحسار دورها الإقليمي والدولي . مرة أخرى أطأطئ الرأس خجلاً متخيلاً مسؤولاً مصرياً كبيراً يجلس في مقعدي مستمعاً إلى رأي الساسة الفرنسيين في السياسة الخارجية المصرية، فيتصدى لهم بالرد الذي صار مألوفاً ومقززاً في آن واحد ldquo;هل تريدون منا أن نحارب؟rdquo; . أتمنى لو أن المسؤولين في مصر عن صنع السياسة الخارجية فكروا في صياغة رد آخر يحل محل الرد المهين والفارغ من المضمون الذي صار موضوعاً لسخرية واسعة . سمعت طالباً يدرس العلاقات الدولية في إحدى جامعات أوروبا يقترح من باب الهزل تعديل الرد ليصبح على النحو الآتي: ldquo;الدول تحقق مصالحها وتسوي صراعاتها الدولية عن طريقين لا ثالث لهما، طريق الحرب وطريق الانعزالrdquo; . ويضيف متشبثاً باقتراحه أنه إذا أخذنا به فسيكون إضافة إلى علوم السياسة والصراع، وحكمة تصلح لعصر قادم لا تقوم فيه بين الدول علاقات، ولا تنشغل الحكومات برسم أو صنع سياسات خارجية، عصر لن تنشأ فيه حاجة إلى وزارات للخارجية .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف