جريدة الجرائد

برنامج الآغا الرياضي وبئر العقل التراثي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حصة محمد أل الشيخ

في صغرنا، كان من شواهد إثبات وجودك أن تكون إما هلالياً أو نصراوياً، أو يكون لك توجه عاطفي تفضيلي تجاه أحد الناديين الأساسيين، وبعد كل مباراة ساخنة لذينك الناديين تتوالى التصريحات وأنواع النقد الرياضي الصادقة والواهمة، وكانت المتابعة لها جو مفعم بالرياضة كفن ومهارة ووسيلة صحية نفسية وجسدية، وإن كانت بصوت ذكوري فقط، أما النساء فيستمتعن بالتشجيع فقط وعن بعد.
وكم كانت دهشتي كبيرة العام الماضي عندما كنت في أمريكا، إذ فوجئت عبر التلفاز بمباراة بين فريقين أمريكيين كانا بالتمام والكمال سيدات.
وللحق كانت مباراة مثيرة وقوية جدا، ولم تتوقف دقيقة واحدة، الحماس وجو كرة القدم الجذاب كان مسيطراً بجماهيره ونشاطه وحركته، فآمنت أن كل أنواع الرياضة تناسب المرأة، بل وأعتقد جازمة لو قابل أحد ذينك الناديين منتخبنا السعودي "الذكوري" طبعا لهزمه وبجدارة بثمانية أهداف تعيد ذكرى سابقتها.
وفي المقابل الذي لا يتقابل أبداً ننتقل لأجواء برنامج "أصداء العالم" في mbc، وهو برنامج يتولى النقد والتعليق على أحداث المباريات بطريقة السحر الجسدية الحسية، فيجيء التعليق ضحكات ومزحا وصدقوني يموتون من الضحك ما أدري على ماذا؟ لكن ربما يضحكون على ما لا أفهمه، أو ربما هو نقد بواسطة سعة الصدر يعني تقنية جديدة للنقد الرياضي، لكنه صراحة نوعية لم يسبق أن شاهدتها، ربما تصنف كمياعة فنية رياضية، والحكم لله كيف تتبدل المعايير عند السامجين، لينقلوها حتى للنقد الفني المهني الرياضي، وتلك والله خلّة لن تجدها إلا عند المتباكي ادعاء مصطفى الآغا وهو يشكو لإحدى الديكورات قصدي المعلًقات شدة النقد من الكتاب وخاصة الكاتبات ذكر منهن الزميلة العزيزة أمل زاهد، واللاتي اتهمنه - يا حرام - وهو بريء باستخدام الرياضة لأجل عيون الوقاحة والتلاعب الاستهتاري بالميول والرغبات الحسية التي فرضت في جو ليس جوها، فكان برنامجه الذي أراد له التميز شاذا بسخف وتفاهة أولئك المائلات المتغنجات، ويسرن بخط موازٍ لثقل طينة مقدم البرنامج، أشار لهذه النقطة "ثقل الطينة" الزميل الفاضل مازن العليوي أيضاً.
ولم يفت الآغا إعطاء كل واحدة منهن كرة لتتلاعب بها كمؤثر غناجة ودلال، يرافقها ضحكات هسترة مائعة بل ولمسات كروية مميزة بأنامل تدور على الكرة فتدير عقول الرجال - وأكرم بهم - فيتهافت المشاهدون لرؤية خلاعة تتلبس بالرياضة، ما شاء الله عليك يا آغا أتيت بما لم يأت به الأوائل!
لا أعتب على الآغا وحده إنما على طاقم البرنامج الذي لم يراع تداخل الأجواء الكوكتيلية، وتلبسها بنقد موتور بلغة التوظيف الجسدية، فواقع الفيديو كليب والكابريهات له أجواؤه المعتمة فكيف تدار مقولبة في أجواء يفترض أنها رياضية؟ ما أسخف الفكرة ومدلولها!
إنه ارتباط امتدادي زمني خلفي من عمق التراث اكتسب بمرور الزمن ميزات أدلجة أقوى رسوخا ليس فقط لدى المستفيد (الرجل) بل من المرأة أيضا، فها هي تدور في سمادير غي الرجل لتقعّد وجودها في سجون الحجب؛ مرة بحجب وجودها الفعلي المستقل باعتبارها فردا يعرف بهويته (وجهه) كونها عورة، وأخرى بسجن المتعة الذي تهب المرأة نفسها فيه راضية كشيء يستمتع به بشرط خلوه من الذكاء والعقل والتفاعل الصحي في أمور الحياة لدرجة قلب موازين الأحوال والمقامات لتكريس مفهوم المرأة اللعوب، والمتاع، وتظل تدور في أفلاك سجن العورة والمتعة، حاجبة عقلها لترضي عموم الذكور، لأنها كما أوهمها البعض كلما كشفت عقلا فارقت جمالا!
نبهتني إحدى الصديقات لبرنامج الآغا طالبة مني نقده لأنه كما وصفت لي بالحرف الواحد "حوّم كبدها"، ولأن كبدها تهمني فضلت أن أراه بنفسي، وأقسم بالله من شدة هزالة البرنامج وتفاهته لم أستطع إكمال ربع ساعة، فالاستملاح التافه من الآغا وهو يجاهر بالخوف من زوجته، وهي شهادة منه -لا مني- تؤكد ابتعاده عن منطق البرامج الرياضية ومجالها، وطلبه من الناقدات أن يسقن الدلال عليه فيغنين "يا مصطفى يا مصطفى، أنا بحبك يا مصطفى"، تجعل الفرد يتحمد ربه على نعمة العقل!
ولقد ضحكت من شكوى الآغا للعين الناقدة لبرنامجه، فالبرنامج كما رأيت ورآه الناس خرج من مجاله لمجال بعييييييد جدا لكنه قريييييب جدا أيضا من عقول مهووسة بالسجون الأنثوية، ومأسورة لمعايير قعر البئر التراثي الذكوري، وبضغطة زر واحدة اكتشفها الكفار المتآمرون علينا، انتقلت لقناة العربية ليقابلني برنامج رياضي مختلف جدا، لأرى الرياضة الحقيقية، أما هناك... فسمها ما شئت يا آغا، وتحية لبتال القوس.
المفارقة بين مباراة أمريكا النسائية وبرنامج الآغا الرياضي تعكس ثقافتين متمايزتين ترتبطان بحقوق الإنسان ومشاعره، إحداهما بدائية والأخرى حضارية، وأعتقد أنه كلما اكتسب الإنسان حقاً تبع ذلك ترقٍ لمشاعره، وبقدر منح الدول الحقوق لأفرادها ترتقي أحوال مشاعرهم ووعيهم، مما يساعد على تشكيل وعي مفارق ينهض بالنزعة الإنسانية ويتقدم على خط الزمن النهضوي الماضي قدما للأمام، مكسباً الإنسان استقامة عقلية حرة ونزيهة.
والمرأة بذاتها تستطيع أن تكون رئيسة محترمة، وممثلة راقية، ومغنية قديرة، وناقدة رياضية مميزة، وتسهم في تشكل وعي إنساني ينقل المرأة من دور التسليع والتمتع إلى مجال التأثير الراقي، متى تحررت من سجونها، ونزعت عن عقلها رداء الأدلجة، وبقدْر المرء يُختار الطريق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف