أوكتافيا نصر: ضحية شبكة تويتر أم قربان حرية الإعلام؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نصر الدين لعياضي
استغنت القناة التلفزيونية الأمريكية ldquo;سي إن إنrdquo; عن خدمات الصحافية أوكتافيا نصر لمجرد أنها عبرت عن مشاعرها الإنسانية في مقام غير مهني . ولم يقم بعض زملائها في المهنة إلا بمواساتها ببعض الكلمات الذي يشوبها اللوم: كان عليها تدوير لسانها في فمها سبع مرات، كما جاء في القول المأثور الفرنسي، قبل أن تنبس بأي كلمة في شبكة تويتر . ومعنى هذا القول أن الصحافية المفصولة عن عملها تسرعت في كتابة ما كتبته دون أن تقدر عواقبه . لقد كتبت هذه الصحافية في شبكة الانترنت، يوم 8 يوليو الفائت، إثر وفاة
الشيخ محمد حسين فضل الله، الجملة المشهودة التي جنت عليها مهنياً: ldquo;لقد حزنت لوفاة السيد فضل الله، إنه أحد رجال حزب الله العظام الذي أكن له الاحترام الكبيرrdquo; . نعم فصلت الصحافية المذكورة عن عملها ولم تشفع لها التوضيحات التي رفعتها، لاحقاً، إلى مسؤولي القناة التلفزيونية المذكورة، والتي بينت فيها أنها أخطأت التقدير، وأن ما ذكرته في شبكة تويتر جاء من باب الإشادة بوقوف المرحوم بجانب حقوق المرأة لا غير . لقد ردت القناة التلفزيونية على هذا التوضيح بالقول المأثور: أذن من طين وأخرى من عجين!
لقد اندهش الكثير من الصحافيين الأمريكيين من ردة فعل قناة ldquo;سي .إن .إنrdquo; السريعة، ومن تصرفها القاصي مع أوكتافيا نصر الصحافية الأمريكية ذات الأصل اللبناني . فلم يسبقه إنذار، ولا توبيخ، ولا توقيف عن العمل لبضعة أيام، ولا حتى إشعار مسبق . لقد فصلت ببساطة عن عملها . ولم تشفع لها السنوات العشرون التي قضتها بالقناة، وغطت خلالها معظم أحداث الشرق الأوسط، وبؤر التوتر في العالم، ولا منصب رئيس تحرير القناة الذي تبوأته بعد جهد ومثابرة . ولا خبرتها التي جعلتها من المختصات في شؤون الشرق الأوسط والتي التزمت خلالها بخط القناة التلفزيونية من الصراع في الشرق الأوسط، ولا حصولها على الجوائز داخل الولايات المتحدة الأمريكية وفي لبنان .
انقسم الصحافيون الأمريكيون في موقفهم من هذا الحدث . فأغلبيتهم انصرفت لجمع الحجج والشواهد التي تعزز قرار قناة ldquo;سي إن إنrdquo;، وتدين أوكتافيا نصر . لقد اكتشفوا، فجأة، أن ال140 كلمة التي نشرتها في شبكة التويتر - وهو العدد المسموح بكتابته في هذه الشبكة- وعبرت فيها عن مشاعرها الخاصة التي لم يطلع عليها سوى حوالي 8 آلاف مشترك في شبكة تويتر فقط، تطعن في مصداقيتها المهنية كمختصة في الشرق الأوسط، كما جاء على لسان بريزا كوسرافي، نائب رئيس قناة ldquo;سي إن إنrdquo; . هكذا استطاع هذا العدد البسيط من الكلمات، التي قيلت في سياق خاص للتعبير عن مشاعر ذاتية، أن يطمس ملايين الكلمات التي استعملتها الصحافية المذكورة طيلة حياتها المهنية في القناة ذاتها . ويمحي كل ما قيل عن مصداقيتها والتزامها المهني .
إن فصل أوكتافيا نصر بسبب رأيها الشخصي المنشور في الشبكة الاجتماعية في الانترنت لا يعد حدثاً استثنائياً في وسائل الإعلام الأمريكية، ولن يكون الأخير، من دون شك . فقبل شهر من هذا التاريخ أجبرت ألين طومس، عميدة الصحافيين المعتمدين لدى البيت الأبيض الأمريكي، على الإحالة إلى التقاعد بعد أن ldquo;تجرأتrdquo; ونشرت رأيها الشخصي عن ldquo;إسرائيلrdquo; في موقع اليوتيوب . وقبلهما بأكثر من شهر أجبر كاتب المدونات دفيد واينجر في صحيفة ldquo;الواشنطن بوستrdquo; على تقديم استقالته بعد أن نشر رسائل خاصة تبوح برأيه الشخصي في بعض الشخصيات المحافظة في وسائل الإعلام الأمريكية .
لم تثر هذه الأحداث ضمير الكتاب، الذين امتهنوا توزيع شهادة حسن السلوك الإعلامي على وسائل الإعلام والدول، لمناقشتها من زاوية حرية التعبير والإعلام .
يمكن أن نبرر عدم مناقشة حالة أوكتافيا نصر، ومن سبقها من الصحافيين الذين عرفوا المصير ذاته، في وسائل الإعلام العالمية، وجمعيات الصحافيين، ومنظمات حقوق الإنسان، بحسابات سياسية آنية أو قناعات إيديولوجية راسخة . لكن النقاش حول هذا الموضوع يفرض ذاته إن آجلا أو عاجلا، لأنه يطرح سؤلاً وجودياً على وسائل الإعلام المعاصرة وعلى الصحافيين . ويمكن اختصاره في ما يلي: إلى أي حد يمكن للصحافي المهني أن يمارس حريته في التعبير في الشبكات الاجتماعية في الانترنت: الفيس بوك، تويتير، اليوتيوب، والمدونات الإلكترونية؟ وهل يمنع الصحافي من أن يكون له رأياً شخصياً يختلف عن رأي المؤسسة الإعلامية التي يشتغل بها وإن عبر عنه باسمه الشخصي؟
من السهل جداً أن نورد العديد من الأمثلة التي تكشف عن التعامل مع الصحافيين في العديد من الدول الغربية بالكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بالصراع العربي- ldquo;الإسرائيليrdquo; . لكن حالة أوكتافيا نصر تكشف عن مدى التخبط الذي تعاني منه وسائل الإعلام، خاصة الأمريكية، في تعاملها مع الشبكات الاجتماعية في الانترنت .
لقد شجعت هذه الوسائل في السابق صحافييها على إنشاء مدونات إلكترونية، وعلى تذيّل مقالاتهم المنشورة في الصحف بعناوينهم الإلكترونية من أجل التفاعل أكثر مع قرائها، وعلى فتح حساب في شبكتي الفيس بوك وتويتر من أجل توسيع قاعدة جمهورها على أسس شخصية وذاتية، لأن هذه الشبكات ليست مؤسسات رسمية . أما اليوم فتعجز عن التحكم في سيل المعلومات والأخبار والتعليقات التي يشارك بها صحافيوها في الشبكات الاجتماعية . فالعديد من الصحافيين أصبحوا يفتتحون يومهم المهني بالاطلاع على شبكة تويتر قبل متابعة الأخبار التي تجود بها وكالات الأنباء العالمية، لأن هذه الشبكة تقدم الأخبار الثرية والمعلومات التي تترفع عنها المؤسسات الإعلامية الرسمية، وتقدم الأحداث في لحظة وقوعها خلافاً لوكالات الأنباء التي تعاني، بهذا القدر أو ذاك، من الترهل البيروقراطي . كما يشهد على ذلك الزلزال الذي ضرب هايتي قبل ستة أشهر .
لقد اعترف العديد من الصحافيين بأن شبكة تويتر أصبحت همزة وصل مع مصادر معلوماتهم، ووسيلة لرصد رجع الصدى على ما يكتبونه وينشرونه، وإطار يسمح للبعض بالمشاركة في الإنتاج الإعلامي . فالمذيع ديفد غريغوري بالقناة التلفزيونية أن بي سي الأمريكية يطلب دائماً من متابعيه عبر شبكة تويتر رأيهم في الموضوع الذي يقترحه للنقاش في برنامجه، والأشخاص الذين يستضيفهم . فالمشاهد أصبح طرفاً في البرنامج التلفزيوني قبل أن يشاهده ويعلق عليه . لقد أدركت بعض المؤسسات الإعلامية أن سمعة وشهرة صحافييها قد فاقت شهرتها بفضل الشبكات الاجتماعية المذكورة أعلاه .
أمام هذا الوضع اتجهت كل مؤسسة إعلامية إلى فرض قيود على صحافييها في تعاملهم مع هذه الشبكات . فصحيفة الواشنطن بوست، على سبيل المثال، منعت صحافييها من امتلاك حساب شخصي في شبكة تويتر خوفاً من المساس بخطها التحريري . أما صحيفة ldquo;التايمزrdquo; فقد حذرت صحافييها، الذين يملكون حساباً شخصياً في شبكة تويتر والفيس البوك، من نشر المواد التي لم يستطيعوا نشرها في الصحيفة، لأنها تعتقد أن كل ما ينشرونه يمكن أن يستخدم ضدهم وضد صحيفة ldquo;التايمزrdquo; . أما إدارة صحيفة ldquo;وال ستريت جورنالrdquo; فقد طالبت صحفييها بعدم إدراج أسماء المصادر المجهولة التي تزودهم بالمعلومات في خانة الأصدقاء . ويعتقد ldquo;بيل كيلرrdquo;، المدير التنفيذي في صحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo; أن كل ما ينشره صحافيو هذه الجريدة في الشبكات الاجتماعية يعبر عن الصحيفة المذكورة حتى إن كان موقعاً باسمهم الشخصي .
يبدو أن كل الاجتهادات التي قامت بها المؤسسات الإعلامية الأمريكية منفردة لضبط علاقة صحافييها بالشبكات الاجتماعية لم تحقق النتائج المرجوة مما أدى إلى تنسيق الجهود، ووضع ميثاق عمل يفرض على الصحافيين الالتزام بمجموعة من المبادئ، نذكر منها ما يلي: عدم استخدام الشبكات الاجتماعية بأسماء مستعارة، وعدم الكشف عن المواقف السياسية الشخصية، وطلب موافقة المسؤولين المباشرين على إدراج أسماء الأشخاص، الذين من المحتمل أن يصبحوا مصادر إخبارية سرية، في خانة الأصدقاء في الشبكات الاجتماعية، والامتناع عن مناقشة المقالات التي لم تنشرها الصحيفة، وعدم نقد المقالات التي نشرها الزملاء في الصحيفة . قد نختلف في تقييم هذه المبادئ وقراءتها . أليس كذلك؟ فبعضكم يصر على أنها ضرورية لإعادة الهيبة للمؤسسة الإعلامية التي اختلطت فيها آراء الحابل بالنابل، وحمايتها من الفوضى التي بدأت تعم الشبكات الاجتماعية، حتى وإن كانت هذه المبادئ تجهض نبوءة الذين رؤوا في الانترنت فردوس حرية التعبير المفقود . وبعضكم يشم في هذه المبادئ رائحة انبعاث الماضي . إنه ماضي علاقة الأحزاب الشيوعية بالصحافيين . إذاً لنسأل أوكتافيا نصر . . . . أخشى أن يمتد بها اليأس إلى حد القول إنها لم تتوقع أن تعيش عصراً تتحول فيه الشفافية إلى عدو حرية الإعلام .