المفاوضات وقد أصبحت غاية!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صبحي غندور
فجأةً أصبحت المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هي القضية، وكأنّ 16 عاماً من هذه المفاوضات (من أوسلو 1993 إلى 2009) لم تكن قائمة! مفهومٌ هذا الإلحاح الإسرائيلي على استئناف المفاوضات المباشرة الآن (دون شروط)، ففي ذلك استئناف أيضاً لما حصل في الأعوام الماضية من قضم للأراضي الفلسطينية، ومن "تهويد" للقدس، ومن بناء مستوطنات جديدة فيها وفي عموم الضفة الغربية، طبعاً مع تحسين "صورة إسرائيل" في العالم من خلال إظهار قادة فلسطينيين يتفاوضون ويسرحون ويمرحون مع أركان الحكم الإسرائيلي. أيضاً، تريد حكومة نتنياهو "مفاوضات مباشرة" تمنع "الوسيط الأميركي" جورج ميتشل من التدخّل في تفاصيل وبرامج المحادثات مع الفلسطينيين، ممّا يزيد من فرص الضغط المباشر على السلطة الفلسطينية (كما حدث في الأعوام الماضية) ثمّ تحميل إسرائيل للطرف الفلسطيني مسؤولية التأخّر في تنفيذ الاتفاقات.
مفهومٌ إذاً، هذا الإصرار الإسرائيلي على المفاوضات المباشرة دون شروط مسبقة، لكن لا يوجد بعد تفسير مقنع لهذا التراجع في الموقف الأميركي بعدم الربط بين تجميد الاستيطان وبين المفاوضات المباشرة. الكلّ يتحدّث عن حاجة أوباما لمراعاة ضغوط المرشحين "الديموقراطيين"، الذين يحتاجون لدعم القوى اليهودية الفاعلة في المجتمع الأميركي، في الانتخابات النصفية المقبلة في شهر نوفمبر، لكن أين هي الضغوط الفلسطينية والعربية على إدارة أوباما، ولماذا هذا التسهيل الدائم للرغبات الأميركية ممّا يُضعف الموقفين العربي والأميركي معاً؟
إنّ إسرائيل (يدعمها الموقف الأميركي) حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وأي طرف عربي، وعلى الدعوة إلى حلول منفردة مع الأطراف العربية؛ ممّا يشرذم الموقف العربي أولاً (كما حدث بعد المعاهدة مع مصر)، وممّا يؤدّي أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها في النهاية مسألة خلاف محصورة فقط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني؟
إنّ الضغط الأميركي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على رفض أي مفاوضات مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، على أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، واستمرار خيار المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وبذلك تكون هناك مصداقية للموقف الرسمي العربي، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للضغط الأميركي "المعنوي" الذي مارسته إدارة أوباما لحينٍ من الوقت على حكومة إسرائيل.
فما حدث من "أزمة" لم يكن بين "الدولتين": أميركا وإسرائيل، بل بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو. والأزمة أصلاً مردّها الأجندة الخاصّة بكلّ طرف حول أوضاع الشرق الأوسط ككل. فالتزامن بالوصول إلى الحكم، الذي حدث بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، لم يرافقه توافق في الأجندات. فبينما جاءت إدارة أوباما على شعارات رفض التطرّف والسعي لمعالجة الأزمات الدولية عبر التفاوض، وصل نتنياهو للحكم بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين الإسرائيليين، وعلى رأس حكومة يدير وزارة خارجيتها مستوطن يريد تهجير الفلسطينيين، ويرفض الاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية ويهدّد بقصف مواقع مصرية. أيضاً، وهذا هو الأهم، فإنّ حكومة نتنياهو التي تريد التملّص من مسيرة التسوية مع الفلسطينيين، تعمل من أجل دفع أميركا والغرب إلى مسيرة حرب مع إيران ومن يقف معها عربياً. فهو خلاف تجاوز مسألة الاستيطان وشمل الرؤية الأميركية الآن لمصير الصراعات في الشرق الأوسط.
لذلك، لن يكون "لقاء العسل" الذي حصل أخيراً في واشنطن بين أوباما ونتنياهو هو خاتمة زمن الخلاف بين الطرفين، بل هو "تجميل إعلامي" لما سيبقى قائماً سياسياً من تعارض بين رؤيتي أوباما ونتنياهو.
فحكومة نتنياهو لا تجد مصلحةً في السير الآن بنهج التسويات السياسية التي ستفرض عليها الانسحاب من الجولان والضفّة وإقامة الدولة الفلسطينية. هناك مراهنة إسرائيلية مستمرّة على انقسامات وصراعات في الجسم الفلسطيني وفي عموم المنطقة العربية، بفعل التأزّم الحاصل مع إيران وانسداد آفاق التسويات السياسية بالمنطقة. كذلك فإنّ الصدام العسكري مع إيران، المأمول به إسرائيلياً، سيزيد من مشاعر الغضب ضدّ الولايات المتحدة والغرب، وسيعزّز الحاجة الأميركية لدور إسرائيل في المنطقة.
لقد خاطب أوباما العرب والمسلمين منذ سنة من أوّل عاصمة عربية وقّعت معاهدة صلح مع إسرائيل، القاهرة، وكان لذلك مغزاه الذي تحرص عليه إدارة أوباما الآن في سعيها لتسوية شاملة بالمنطقة.
ويُدرك الرئيس أوباما أنّ ما يأمله العرب والمسلمون من تغيير في سياسة الولايات المتحدة سيكون محكّه الصراع العربي/الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية تحديداً. وقد تحدّثت إدارة أوباما عن ضرورة وقف بناء أو توسيع المستوطنات الإسرائيلية، وعن التمسّك بصيغة حلّ الدولتين. وهذا الأمر مهمٌّ طبعاً، لكنْ ماذا لو تكرّر ما حدث في العام 1991 من خلاف أميركي إسرائيلي حول القضية نفسها (تجميد المستوطنات) ومن صيغة مؤتمر مدريد الذي شهد تجاوز فكرة ما حدث مع مصر السادات من مفاوضات ثنائية مباشرة؟
ألم ينتهِ مؤتمر كامب ديفيد في مطلع التسعينات إلى هذه النتيجة العملية (أي المفاوضات الثنائية) بعدما كانت الفكرة الأساسية منه هي إعداد تسوية شاملة على كلّ الجبهات، واعتماد رعاية دولية لهذه التسوية وعدم حصرها بالمفاوضات الثنائية، ألم يتحوّل مؤتمر مدريد إلى عذر من أجل الضغط على العرب للتطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلّة، فما الذي نتج عملياً عن مؤتمر مدريد غير التطبيع حتى مع دول عربية وإسلامية غير معنيّة مباشرةً بالصراع مع إسرائيل؟
أمّا القضية الفلسطينية، فقد جعلها اتفاق أوسلو (الثنائي) مسألة خاضعة للتفاوض فقط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي هي أقلّ من حكم ذاتي على الأراضي الفلسطينية المحتلّة. وقد أخذت إسرائيل من قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية" الاعتراف بها (دون تحديد حدود إسرائيل!) وبالتعهّد بعدم استخدام أي شكل من أشكال المقاومة، مقابل الاعتراف فقط بقيادة المنظمة وليس بأي حقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني!.
الآن تتجمّع قطع مبعثرة لتشكّل لوحة شبيهة بما حدث في مطلع عقد التسعينات، من حيث "أوجه الخلاف" بين واشنطن وتل أبيب، أو من حيث مشاريع صيغ التسوية الشاملة. فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعود أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل للفلسطينيين والعرب؟
مشكلة الفلسطينيين والعرب ليست فقط مع "الخصم الإسرائيلي والحكم الأميركي" بل هي أصلاً مع أنفسهم، فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد.
مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن