جريدة الجرائد

أحزان الذاكرة الفلسطينية ومراثي "صفائها"..

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

راكان المجالي

للمذكرات الشخصية، وبصرف النظر فيما إذا كانت سياسية أم لا ، قيمة بالغة الأهمية، والخطورة أيضاً ، لا سيما في بلدان الطوق المحيطة بفلسطين المحتلة ، كما كانت توصف قبل أكثر مِن عقدين . تلك البلدان ، التي شاءت مقاديرها أن تقيم على "خطوط نار" طويلة ، عسكرية وسياسية واجتماعية، في التاريخ الحديث للمنطقة، أي بُعيد الحرب العالمية الأولى. ولا داعي هنا للتفصيل أكثر، في أهمية المذكرات الشخصية، في منطقة لا يزال تاريخها ينصهر ويسيل ويتشكل باستمرار، ومدى اهتمام الدوائر "الإسرائيلية" ، والغربية عموما ً، وجامعاتها ومراكز أبحاثها بتلك المذكرات، لا سيما تلك التي ينتمي زمنها إلى ما قبل تشكّل الدولة العبرية أو بعدها بقليل ، والأدلة هنا أكثر من أن تحصى..!؟.
قليلة هي المراجعات السياسية التي تمّت حتى الآن ، لمذكرات السياسي والمفكر العربي إلياس شوفاني، التي صدرت في دمشق في العام الماضي ، بعنوان: مرثية الصفاء..!؟.
وفي واحدة ، مِن تلك المراجعات ، كان لافتا، في علاقة الأكاديميا والسياسة ، الإشارة إلى ما أوصلته السياسة من مصير بائس ومحزن لصاحب السيرة ، وبين ما كان متوافراً ومتاحاً لصاحبها ، من موقع أكاديمي مرموق في الولايات المتحدة ، قبل نحو أربعين عاماً، والذي تركه صاحبه ليلتحق بالعمل السياسي ، في المنطقة العربية ، عشية حرب (أكتوبر) عام 1973. حيث قدّمت تلك المراجعة نموذجا أكاديميا ناجحا ، هو د. إدوارد سعيد ، رفيق صاحب السيرة وزميله ، للمقارنة بالمآل الشخصي للأكاديمي الذي هجر الأكاديميا باتجاه السياسة.
وفي هذا ظلم معرفي كبير، حسب ما أعتقد. وللإنصاف، فإنّ تلك الملاحظة هي نفسها التي توقف عندها د. إدوارد سعيد ، حين تأمّل تجربة د. حنا ميخائيل (أبو عمر)، صاحب أطروحة ( السياسة والوحي - الماوردي وما بعده) ، التي أشرف عليها "د. هاملتوب جب" في جامعة "هارفارد " ، وذلك حين ترك أبو عمر موقعه الأكاديمي البارز في الولايات المتحدة ، ليلتحق بالعمل السياسي الوطني ، بعد هزيمة العام 1967. ليلقى مصيراً أكثر حزناً وبؤساً، من مصير د. شوفاني ، بعد أقل من عشر سنوات من عودته، حيث تمّ اختطافه ورفاقه، في ظروف لا تزال غامضة إلى اليوم، أثناء انتقالهم في مهمّة بقارب من بيروت إلى طرابلس ، في العام 1976.
وبصرف النظر عن تلك المراجعة، وكذلك الحزن الفائض، الذي تثيره المذكرات على صاحبها، وعلى كثير من محطات تجربته الزاخرة، فإنّ الكتاب يحمل الكثير من الجدل والسجال . ففيه حدٌّ من الجرأة، لتقديم رواية تاريخية، وفكرية ، وسياسية، لقطاع واسع من اليسار العربي: يسار فتح ، اليسار الفلسطيني بفصائله ، اليسار العربي. وهنا، تتزاحم الملاحظات الأولية، وقبل قراءة الكتاب التفصيلية: فشوفاني ليس مؤرخاً، حتى وإن تخصّص في التاريخ، ونصف عمره السياسي من التجربة يشهد. ومِن التعسف ، كما فعلت المراجعة المشار إليها، وصفه بـ "المؤرخ الفلسطيني والأستاذ السابق في جامعة جورج تاون والمنظّر اللاحق..." .
وفي الكتاب أيضاً، أخطاء تفصيلية كثيرة ، في الأسماء والوقائع وتفاصيل الأحداث وتراتيبها ، يمكن عزوها إلى الظروف الصحية والمادية والإنسانية، التي أعدَّ فيها د. شوفاني الكتاب.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإنّ الكتاب يصلح أن يكون مادة أُولى، لبناء عمود فقري في الرواية التاريخية الكبرى ، عربياً وفلسطينياً، الزاخرة بالحزن والفشل والنجاح والأوهام ، والكفاح أيضاً . ويبقى السؤال المُضني: متى يمكن أن يتمّ ذلك..؟ وهل تصلح أزمان الانهيارات الوطنية والقومية الكبرى لأن تكون مناخاً ملائماً للنقد والجدل ، وتعرية التجارب برمّتها؟ وهل يُسعف العمر ، والظروف الشخصية، أصحابه في تقديم رواياتهم ، لِما جرى ، حين يريدون أو يختارون .. ؟.
كثيرة هي المجموعات المؤسّسة ، وكُثر هم الأفراد المؤسسون ، ومنهم من أخذتهم الأيام إلى ظروف شخصية أسوأ من تلك التي وصل إليها د. شوفاني. ورغم ذلك ، فلا تزال نظرية المؤامرة ، على المستوى الشخصي ، تنهش في اللحم الحيّ ، في قطاعات كبيرة من الأوساط الشعبية والنخبوية . وكتاب مرثية الصفاء يحاول بقوة ، وبتفاصيل مأساوية ومحزنة ، دفع تلك النظرية بعيداً. فهل من السهل الوصول إلى ذلك ، حول تفاصيل تاريخ ما حدث، لاسيما إذا تذكرنا أن "زلماي خليل زاد "، الأفغاني الأصل ، والمندوب الأميركي السابق في مجلس الأمن ، هو من كان مسؤولاً عن كتابة ملف الحركة الصهيونية، في الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية ، لعامين متتاليين (1970-1971)، والوثائق الفلسطينية والعربية تشهد.. ؟!.
ما هو حقيقي في أزماننا الراهنة، أنّ كل القناديل اهتزت وتُواصل اهتزازها ، وترتجف ذُبالاتها ، وتتوسل بالزيت أنّ يستمر. فالرياح الكريهة هبّت، وتواصل عصفها . والرياح العظيمة يخنقها خرابٌ كثير ، يتّقد على "النقرس الطائفي ". فالعنف يتلوّث وجهه . والخطاب الوطني والقومي يضجّ بدعاوى فارغة. والمساحات الخضراء تحترق في وعي الناس. واللغة الخرساء تُطفئ فوانيس العشق . وبوحُ الأسرار لا يليق ، حين تبثّ الطواعين براغيثها..!؟ فراهننا يحتاج إلى عيون نسور محدّقة . عيونُ نسورٍ ترى الأشياء على حقيقتها ، فتُريك ، من غير وجلٍ ، فضاء رؤاها. وليست رؤى طرائد ، لا تُبصر سوى خوفها، واصطكاك فرائصها، وأوهام الخوف في ريشها وزغبه لحظة الافتراس .. !!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف