جريدة الجرائد

أوروبا قبل قرون .. كيف تغوّل الكهنوت ؟.

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد بن علي المحمود

حدثني كثير من الأوروبين والأمريكيين ( = الغربيين بصفة عامة ) ؛ فأجمعوا قائلين : كانت أوروبا قبل قرون تعيش في حال تتطابق تماما مع ما تعيشه دول العالم الثالث النامي ( = النائم ) . قالوا : كان الكهنوت في أوروبا يُحكم قبضته الفولاذية التي تتغيا الهيمنة الاجتماعية ، ولم يكن هذا الكهنوت الأوروبي المسيحي يسمح بأي حراك خارج مفاهيمه وتصوراته التي توارثها منذ قرون وقرون . قالوا وهم مغتبطون بما حققوه من تحرر لم يتحقق في أي مكان في العالم : كانت تلك العصور أشبه بجهنم ، أنقذنا الله منها بفضل كفاح أولئك المفكرين العظام الذي بذلوا كل شيء ، حتى أرواحهم ، في سبيل التحرر من عصور الظلام .

كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء . فالجماهير الأوربية في العصور الوسطى لم تكن تعي حقيقة انسحاقها ، لم تكن تعي حجم البؤس والشقاء الذي تعيشه ، كانت ترى بؤسها وضعا طبيعيا ، وربما تصورت أنه مُراد الله ، لم تكن حتى تفكر في مستوى الاستغلال الذي يمارسه عليها رجال الدين باسم الدين .

بل الأسوأ من كل ذلك ، أن الأكثرية كانت تعاني من جهل بحالها نتيجة إيديولوجيا التجهيل التي تعمدت تضليلها . وهي ؛ جراء ذلك ، كانت تقدم أعز ما تملك ( = حريتها ) من أجل أن تحظى بمباركة رجال الدين . خاصة وأن رجال الدين يمارسون سياسة : " الترويع من أجل التطويع " ، أي أنهم كانوا يتلون على الجماهير البائسة في الكنائس أيام الآحاد مواعظ تقشعر منها جلود أولئك البؤساء . فيستغلون ذلك من إجل ربط الناس بهم . كان رجال الدين يضعون أمام الجماهير المؤمنة صورا لعذاب جهنم ( وكأنهم قد زاروا جهنم واطلعوا على تفاصيلها !) ؛ ولسان حالهم يقول : من لم يتبعنا في كل شيء ، ويرضخ لإرادتنا ؛ فهذا سيكون مصيره . يقولون هذا تضمينا ؛ وكأنما كانوا يزعمون أن بيدهم الجنة والنار ، وأنهم الوكلاء الشرعيون لرب العالمين ، تعالى الله عما يزعمون علوا كبيرا .

قد يرى كثيرون أن هذا السلوك التسلطي ، من قبل رجال الدين ، غير طبيعي ، وأنه لم يكن ليحدث ؛ لو كان هناك أدنى ممانعة من عامة الناس . أي أنه جاء نتيجة ضعف المناعة ، وليس نتيجة قوة الهجوم . لا أوافق على هذا ، أنا أراه سلوكا طبيعيا ، خاصة في سياق ظروف كثيرة ومعقدة ، كانت كلها تتضافر لتحقيق هذا الواقع الجهنمي الذي يسحق الإنسان . كل الظروف كانت تصنع هذا الواقع الكهنوتي كواقع طبيعي ، من الجهل ، إلى شهوة التسلط التي تتحكم في سلوك الإنسان البدائي ، مرورا بالمطامع والمنافع التي تتحقق لمن يلتحق بهذا السلك الكهنوتي . والإنسان أسير مخاوفه وأطماعه ! .

الكهنوت الذي تحكّم في أوروبا في القرن الخامس عشر ، لم يكن صناعة هذا القرن ( = الخامس عشر ) لم يكن واقعة نشاز ، بل هو نتاج أكثر من عشرة قرون من البؤس الديني الذي كان يشدد الخناق يوما بعد يوم على رعاياه ؛ حيث كانت كل درجة من الهيمنة تفتح شهية التسلط لما بعدها ، وتضع أمام ضعاف النفوس من العامة طريقا سهلا لتحقيق نوع من التسلط ولو على شرذمة قليلة من البؤساء .

الكهنوت ( هناك ، بعيدا ، في أوروبا عافانا الله وإياكم ) أصبح بُنية تسلط وهيمنة تُغذي نفسها بنفسها . أصبح الكهنوت مؤسسة تسير بقوة الدفع الذاتي ؛ لأنها تمتلك ما يسيل له لعاب المرتزقة والباحثين عن المكانة الاجتماعية في وسط اجتماعي عنصري ونفعي ، لا يقيم للإنسان أي اعتبار ؛ ما لم يكن يأوي إلى ركن شديد ، وأي ركن أشد من ركن رجال الدين آنذاك . لم يكن للفرد أي قيمة من حيث هو إنسان فرد مجرد من الاعتبارات الاجتماعية ، وإنما كانت قيمته تتحدد من حيث وضعه في منظومة الكهنوت أو منظومة الفرسان والنبلاء والإقطاعيين . وكان الكهنوت هو البوابة المتاحة لمحدودي القدرات .

بوابة الكهنوت هي البوابة المتاحة ، بل وهي الأجدى . وللتذكير ، فقد أصبح رجال الدين ( = السلك الكهنوتي ) أعظم نفوذا على المستوى الجماهيري من الإقطاعيين والفرسان بل ومن الملوك الذين لم تكن شرعيتهم تتم إلا بموافقة البابا (= أعلى سلطة دينية في المسيحية ) . بل إن الجماهير البائسة كانت تدرك حقيقة امتلاك رجال الكهنوت لعالمي : الدنيا والآخرة . فإذا كان الإقطاعيون والنبلاء والملوك يستطيعون تحديد مستوى سعادتهم في الدنيا فقط ، فإن رجال الكهنوت يملكون القدرة على تحديد سعادتهم في الدنيا والآخرة ، أي أنهم كما يدعون وصدقهم أولئك البؤساء يملكون آلية تحقيق الرفعة المادية والمعنوية في هذه الدنيا ، كما يملكون القدرة على تطمين الخائفين على مصيرهم الأخروي ، الذي لا يمكن أن يضمنه لهم إلا رجال الدين .

عندما أصبح الكهنوت مراتب ومراقي ، عندما أصبح عطايا ومزايا ، عندما أصبح مباخر ومفاخر ، عندما اصبح أصغر راهب يضمن نعيم الدنيا ، كما يضمن بزعمه نعيم الآخرة ؛ أصبح الإنضواء في هذا السلك هو أمل الجميع . كان الأب يقوم بنذر ابنه أو ابنته للكنيسة ، وكان يضع ابنه ، منذ بداية وعيه ، في سياق حلم كبير وجميل ، حلم قابل للتحقق ، حيث يبدأ صبيا بخدمة الرهبان إلى أن يصبح من قادة الرهبان وأساطين الرهبنة العظام .

في أوروبا آنذاك ، كان الأب يقوم بتوجيه ابنه بالإشارات الملهمة والعبارات الموحية ، كان يشحنه بالطموح ؛ كي ينخرط في السلك الكهنوتي الذي يضمن له العيش الرغيد مع مزيد من الكسل والخبل . ولم يكن الأمر مقصورا عليه كفرد ، بل كان حلم الفرد يتحول إلى حلم عائلة ، وحلم العائلة إلى حلم قرية أو قبيلة . تتوجه طموحات كثيرين ، خاصة محدودي الذكاء ومحدودي القدرة الجسدية ، إلى تحقيق ذواتهم عبر هذا النظام الكهنوتي الذي يضمن لهم ، بمجرد ترديد واجترار بعض الجمل والمحفوظات ، أن يكونوا مؤثرين في مجتمعهم ، بعد أن يضمنوا الرغيف الساخن ، ذلك الرغيف الذي لا يمكن أن ينالوه بذكائهم المحدود وضعفهم المعهود .

البداية تكون في غاية البساطة ؛ وذلك عندما تعي العائلة أو القبيلة وضعها الاجتماعي الدوني ، وفي الوقت نفسه ترى أمامها طريقا ممهدا لتجاوز هذا الوضع الدوني الذي يسحق كرامتها كل يوم . انخراط أحد الأبناء في هذا السلك المقدس ، كان يعني أن هناك أملا واعدا بالخروج من عالم الفقر والقهر والتفاهة والوضاعة إلى عالم الوجاهة والمال والنفوذ . لهذا ، كان مجرد أن يبدي أحد الأبناء ميلا ( أو تمايلا ) للالتحاق بهذا السلك ، يُواجه بتشجيع من كل أفراد النظام الاجتماعي من حوله ، الأقرب فالأقرب . العبارات والابتسمات والنظرات بل والعَبَرات ، تدعمه لينخرط في هذا السلك السلطوي . أمل الفرد يصبح أمل جماعة بأكملها ، وكونه أمل جماعة ، يعني أنه يعزز قيمته كأمل فرد . يدرك الفرد أنه بتحقيق أمل الجماعة يمكن أن يتبوأ مكانة فيها ، بل يمكنه أن يهمين عليها ؛ فتصبح طوع أمره تطوعا من غير إكراه ؛ لأن الجماعة لا تستطيع أن تخذله وإلا خذلت نفسها ، وفرط في جاهها الذي تُقيم عليه كثيرا من الآمال .

يُقال والعهدة على الرواة أن المراهق آنذاك كان يبدأ خطواته بالالتحاق بحلقات الكنيسة التي تتم تحت إشراف رئيسها ، وعندما كان يبدأ بالتشبه برجال الكهنوت ، كان يحظى بالتقدير والاحترام من كل من حوله من البائسين . أما عندما يترقى ؛ فيشارك في موعظة الأحد ، فربما رأيت دموع الفرح تتحدر من عيون أفراد القبلية كلها ابتهاجا برضا الله ورضا الناس !. يقال : كان يمكنك أن ترى الأب منزويا في زاوية من الكنيسة يوم الأحد ، يراقب ابنه وهو يشارك في الموعظة ، بينما كان قلبه يمتلئ بالحبور ويفيض بالسرور ؛ لأنه يرى يد القدر تمتد إليه من خلال هذا الابن ؛ لتنقذه من الفقر المادي ومن الإهمال المعنوي . إنه في تلك الحال ، يتلظى اشتعالا بطموحه الجامح ؛ حتى تصل به أحلامه إلى رؤية ابنه في مقام : سيد الفاتيكان ، وربما ساعده المُحبون في تشكيل معالم هذا الحلم الجميل .

هنا ، نرى أن الكهنوت يصنع قيمته من خلال طبيعة المنتفعين به ومن خلال طبيعة هذا الانتفاع . أي أنه أصبح وجودا وقيمة اجتماعية . هؤلاء الذين تحقق لهم ما لم يحلموا به من خلال هذا السلك الكهنوتي ، لن يسمحوا لأي أحد أن يزعزع أركانه ؛ حتى ولو طمسوا في سبيل ذلك كل تعاليم المسيح . الهوة السحيقة التي تفصل بين ما تُوفره لهم إمكانياتهم العقلية والجسدية ، وبين ما حققه لهم الكهنوت ، تجعلهم يعون حجم الخسارة ؛ إذا ما انهار هذا البناء الكهنوتي . إنهم يدركون أنهم بدون هذا الكهنوت مجرد جوقة من البلهاء البؤساء . وبهذا نرى كيف تحول هذا الكهنوت بالنسبة لهم إلى وجود ، وأن من يحاول المساس به ؛ فإنه يحاول المساس بوجودهم ذاته . إنها تصبح مسألة حياة أو موت ، وليست مجرد خيارات حياة .

إن هؤلاء الذي تغطرسوا من رجال الكهنوت ؛ فنشروا الجهل ولاحقوا المفكرين وأحرقوا العلماء ، لم يكونوا أكثر من مجموعة أفراد انتظم الكهنوت عالمهم بحيث يخدمهم ويخدمونه . لقد كانوا في السياق الطبيعي للتراتبية الاجتماعية آنذاك لا يستطيع الواحد منهم أن يدبر أمر نفسه في قليل ولا كثير ، بينما يصبح بفضل هذا السلك الكهنوتي يصول ويجول ، يقول في كل شأن ، بل يأمر وينهى . هؤلاء سيحاربون إلى آخر رمق من أجل المكتسبات الهائلة ( المعنوية والمادية ) ، وستحارب معهم البنية الاجتماعية المرفقة بهم ، والمنتفعة منهم بأي شكل من الأشكال ، وسيطيعهم ، بل ويتبرك بهم المُغفلون من الدهماء الذين يخدعهم هؤلاء ؛ عندما كانوا يتمظهرون في صورة الأتقياء الأنقياء .

إذن ، هكذا تغوّل الكهنوت ؛ عندما أصبح سلطة مهيمنة ، لها مصالحها الخاصة التي تحارب من أجلها . لقد احتاج الفلاسفة والمفكرون والعلماء أكثر من ثلاثة قرون كي يكشفوا للناس أسرار اللعبة الكهنوتية التي كانت ترهق مشاعرهم وتسرق جيوبهم ، بل ، وأحيانا ، تلهب ظهورهم بالسياط . لقد سقط الكهنوت ، وكان لا بد أن يسقط ، لكن بعد أن سحق ملايين الأبرياء ، سقط ولكن بعد أن خدع كثيرين من السذج . كثيرون ماتوا ومات أولادهم وأحفادهم من بعدهم ؛ دون أن يعلموا أنهم كانوا مجرد أداة يتكسب الآخرون ( = رجال الكهنوت ) من خلالها .

ربما يعتقد بعضنا أن رجال الكهنوت في أوروبا قد اقتنعوا ؛ فاستسلموا ، أو أنهم رضوا بالأمر الواقع الذي لا يمنحهم أكثر من رتبة : واعظ . الحقيقة أنه تم تحييدهم بالقوة من قبل الجماهير ؛ وإلا فأطماعهم في الهيمنة وتسيير حياة الناس ، لا زالت كما هي قبل قرون . ولولا أن الجماهير هناك واعية ، وترفض أن تعود إلى جحيمهم بعد أن خرجت منه ؛ لعاد رجال الكهنوت يُحرقون الفلاسفة والمفكرين والإصلاحيين ؛ ويزعمون للجماهير أن هذا حكم الله . وطبعا ستجد من الأغبياء من يصدقها فيما تقول ، ويذعن لأطماعها ، ويدافع عن فضائحها ؛ لمجرد أنها تتحدث بلسان الدين . وطبعا ، لن يستطيع هؤلاء الأغبياء تصوّر حال أوطانهم ( = أوروبا وأمريكا ) لو أن الكهنوت بقي يحكم وعي الناس وواقعهم ، ولو أن رجال الدين بقوا متنفذين كما كانوا قبل قرون .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف