جريدة الجرائد

الأسعد: اتفاق 17 أيار أشرف من صيغة مدريد وأنا أول مسلم أيّد الجميل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بيروت - غسان شربل


غاب كامل الأسعد الرئيس السابق لمجلس النواب اللبناني، الذي كان شاهداً ومشاركاً أساسياً في التحولات التي عاشها لبنان طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

انه الحبة الأخيرة في عنقود الزعامات التاريخية التي سيطرت على الحياة السياسية اللبنانية منذ منتصف الخمسينات وحتى الثمانينات: كميل شمعون، فؤاد شهاب، شارل حلو، سليمان فرنجية، الياس سركيس، رشيد كرامي، صائب سلام، كمال جنبلاط، مجيد ارسلان، عادل عسيران، بيار الجميل.

تعود "الحياة" الى التاريخ لتفتح صفحات منه من خلال حديثين طويلين مع الأسعد أجراهما الزميل غسان شربل ونشرتهما الشقيقة المحتجبة "الوسط" في حزيران (يونيو) 2001 يسلطان الضوء على شخصية الزعيم الوائلي الجنوبي الراحل وعلى محطات أساسية من تاريخ لبنان الحديث لعب الأسعد دوراً كبيراً فيها.

مَنْ من القيادات السياسية كنت تشعر بالانسجام معها ولو من موقع المختلف؟

- كان كميل شمعون سياسياً بارزاً. وهناك فؤاد شهاب الذي كان ممتازاً أخلاقياً، وكان رجل دولة. أنشأ المؤسسات الرقابية (مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة). على الصعيد الشخصي كان فؤاد شهاب زاهداً بالفعل. كان ناسكاً. اختلفنا معه في مسألة تجديد ولايته لأنهم أرادوا الإيحاء انه يقبل بالتجديد رغماً عنه.

كان شهاب يحترم الذين يحترمون أنفسهم. كنت أصغر وزير في حكومة شُكّلت في عهده وحصل خلاف بيني وبينه في منزله بسبب دور المعلمين والمعلمات فقلت له إنني سأترك الوزارة. فوجئت به يودّعني حتى الباب ويلبسني معطفي. لم يكن مضطراً لكنه كان يحترم من يحترم نفسه.

سليمان فرنجية ممتاز أخلاقياً. لديه مواصفات الفروسية، لكن ومع احترامي لآل فرنجية الكرام، لم يكن لديه تصور لعمل الدولة وموقع المؤسسات.

إلياس سركيس كان "آدمي" لكن مشكلته الحقيقية هو انه كان دائماً الرجل الثاني قبل توليه الرئاسة. حتى شارل حلو، وقد كنت أنا من اختاره، جاء من نصحني بأنه "رجل ثان ممتاز"، لكنه لا يستطيع أن يكون الرجل الأول. القيادة تحتاج الى موهبة خاصة أو مواصفات خاصة.

على صعيد رؤساء الحكومات كان هناك من انسجم معهم لكني لا أتحدث في السياسة اللبنانية عن مثل أعلى. كانت علاقتي مع صائب سلام كويسة وعملنا معاً ومع جوزف سكاف في "حركة التجمع الوطني" التي ضمت أيضاً جان عزيز وعدداً من النواب اليتامى. عزيز هو الذي أطلق حركة الاستئناس.

gt; ما هي قصة الاستئناس؟

- كانت بيني وبين الرئيس فؤاد شهاب علاقة احترام متبادل. وفق الدستور ومن أجل تعديله لإعادة انتخاب رئيس الجمهورية هناك حاجة في البداية الى أكثرية مطلقة أي النصف زائد نائب. إذا رفض رئيس الجمهورية وأراد مجلس النواب الإصرار عليه فإن الأمر يحتاج الى الثلثين. أنا لم أكن أرى أن رجلاً يريد أن يتحمل مسؤولية وطن يمكن أن يرفض إلاّ إذا كان فعلاً لا يريد. كنت رئيساً للمجلس في 1964. المرحلة الأولى كانت التمني عليه قبول إعادة انتخابه. ذهبت إليه وقدمت له عريضة دستورية وقلت له يا فخامة الرئيس أتمنى عليك أن توافق من أجل مصلحة البلد واستكمال بناء ما بدأته، ولا أرى ما يبرر عدم الموافقة على رغم ما تقتضيه المسؤولية منك من جهد وعناء. أذكر أن إلياس سركيس كان واقفاً وراء فؤاد شهاب، رحمهما الله، وكان الحاج حسين العويني جالساً الى يساري. قلت له نحن لا نستطيع إلزامك ثم لا نستطيع مواجهة فراغ دستوري.

وشرحت للمقرّبين منه أن الإصرار على القول بأن ليس هناك إلا رجل وحيد يشكّل نوعاً من التحدي للمجتمع. استغرب كثيرون موقفي لكن هذه كانت قناعتي. نحن في "حركة التجمع الوطني" كان موقفنا انه يجب أن يعلن إذا أراد القبول.

gt; بصراحة هل كنت فعلاً تريده أن يبقى؟

- نعم، لكن كنا نريده أن يعلن. لم أكن مؤيداً لصيغة انه سيبقى مضطراً أو مُرغماً. ولا أعرف إذا كان للأمر علاقة بما نقل عن صيغة قبول ديغول بتولي السلطة. لم تكن ثمة حاجة لكل هذا الأمر.

كلمة "الاستئناس" أطلقها المرحوم النائب جان عزيز وهو كان لغوياً. كان يقصد بها الاطمئنان الى النتائج. نحن لم نكن نرمي الى الاطمئنان الى النتائج بقدر ما كنا نرمي الى أن يعلن الرئيس قبوله. شاع تعبير الاستئناس لأن البعض اعتبروا ان الاستئناس حول مصير البلد. المضحك انه كان هناك من لم يفهم الكلمة. المرحوم ريمون اده، وكانت لغته العربية ضعيفة، اعتبر أن كلمة الاستنئاس تتضمن نوعاً من التلذذ والتمتع.

حملت علينا الصحف الشهابية التي كان يسيطر عليها "المكتب الثاني" حملات شعواء. في مقره الصيفي في عجلتون طلب مني الرئيس شهاب لاحقاً أن أمشي في الصيغة المطروحة وهو مستعد فقلت له: "تأخر الوقت" بمعنى فات الأوان لأن ذلك سيُفسّر بأنني رضخت للحملات التي استهدفتني.

gt; هذا يعني انه أبلغك رغبته في البقاء؟

- أنا أتألم حين أروي لك هذه القصة. قال لي تستطيع أن تعلن موافقتي وأنا موافق. فقلت هذا الموقف سيُعتبر تراجعاً مني ولا أقدر على ذلك.

جان عزيز أطلق الاستئناس لكنه مشى لاحقاً مع "المكتب الثاني" بعد وصول شارل حلو. أنا لم أكن ضد شهاب. ولم أؤيد المعارضة الممثلة بريمون إده وكميل شمعون.

gt; كيف وصل شارل حلو الى الرئاسة؟

- لم تكن لدينا أي رغبة في تحدي الرئيس شهاب. وكانت "حركة التجمع الوطني" تشكل كتلة كبيرة في مجلس النواب. جاءني فيليب تقلا (وزير الخارجية في عهد شهاب) وقال لا تريدون السير في إرغام شهاب على البقاء هل ستمشون ضده؟ فقلت لا. وطلبت منه أن يقترح علينا أسماء لخلافة شهاب. ذهب وزارني ثانية في بحمدون حيث كنت اصطاف. جاءني بخمسة أسماء بينهم فؤاد عمون وإلياس الخوري وشارل حلو.

كنت أعرف شارل حلو واخترته وهذه واقعة عرفها الرئيس حلو. دعمه التجمع وزارنا في فندق "فينيسيا" لشكرنا. ومرة جديدة أقول وفي ضوء التجربة أن شارل حلو كان ممتازاً في موقع الرجل الثاني لكنه غير صالح لموقع الرجل الأول. هذا ما قاله لي أحدهم قبل انتخابه وهذا ما أكدته التجربة. كان شارل حلو محاوراً وصاحب ثقافة واسعة لكن لم تكن لديه صفات القيادة والقدرة على القرار، خصوصاً في الظرف الصعب الذي جاء فيه. الرئيس حلو لم يتخذ موقفاً ولم يقل أنا المسؤول لردع الشهابيين الذين أرادوا أن يحكموا من خلاله. ساير جماعة "المكتب الثاني" كثيراً.

بعد تولي شارل حلو الرئاسة استمر النظر الى فؤاد شهاب وكأنه الرئيس الفعلي. وصل الأمر الى درجة أن عامل الهاتف كان يحوّل الخط الى منزل شهاب إذا قال له المتصل أريد التحدث الى فخامة الرئيس. ذهبت وقابلت شهاب وقلت له: "اترك له مجالاً ليحكم". فأجاب: "لا يستطيع، انه غير قادر". أعود وأقول كان شهاب ناسكاً وبسيطاً في أسلوب عيشه ولم يكن مهتماً بالمظاهر.

gt; توليت رئاسة المجلس في 1964، وعدت أليها في 1968؟

- نعم هذا حصل بعد الانتخابات وفوز المعارضة. لكن شارل حلو استسلم لـ "المكتب الثاني" ومشى ضدنا في انتخابات رئاسة المجلس.

gt; في هذه المرحلة نشأ "تكتل الوسط" الذي ضمّكم والرئيس سليمان فرنجية والرئيس صائب سلام، فمن كان وراء الفكرة؟

- لم تكن فكرة شخص بمفرده. التقينا وبحثنا الأوضاع وقررنا العمل سوياً واخترنا الاسم. كان هناك أيضاً الحلف الثلاثي (كميل شمعون وبيار الجميل وريمون اده) و "النهج" المؤيد للشهابية. وكان الخيار التعاون مع القوى الأخرى وأبرزها "الحلف الثلاثي" لانتخاب رئيس للجمهورية لا يكون امتداداً لـ "الحلف الثلاثي".

gt; ما الذي حسم نجاح الرئيس سليمان فرنجية؟

- فاز الرئيس سليمان فرنجية بفارق صوت واحد. وهذا دليل ليس فقط على جدية الانتخابات بل أيضاً على الاستقلالية. طبعاً للدول اهتمام بحدث من هذا النوع ولها مصالح وصداقات. لكن التدخل الخارجي كان يتم في الكواليس. كان التدخل غير مباشر ويتم عبر محاولة إقناع بعض الأشخاص. لم يكن هناك فرض إرادة.

كان إلياس سركيس مرشح "النهج" وقد التقيته في منزل أحد الأصدقاء، وقلت له إن انتخابك سيعني استمرار العهد الشهابي و "المكتب الثاني". طبعاً اليوم نترحم على أيام "المكتب الثاني" قياساً على حكم المخابرات والاستخبارات. قلت له أيضاً ليس لدينا شيء ضدك كشخص لكننا لا نؤيد نهج تسييس العسكر وعسكرة السياسة. دور "تكتل الوسط" كان كبيراً. وللأسف كان هناك بين المنضوين فيه من يصح وصفهم بـ "الطابور الخامس" وقد حاولوا تنفير كميل شمعون بحيث لا يمشي إذا لم يكن هو المرشح. عندها اجتمعت مع كميل شمعون وقلت له نحن على استعداد للسير معك إذا أمّنت العدد اللازم من النواب. وحينها أتدخل لدى الرئيس صائب سلام. في المقابل جرت محاولات مـن جانب "النهج" لترشيح فريد دحداح عن طريق صائب بك سلام. كان هدف هذه المحاولة شق الفريق المعارض.

لم يتمكن شمعون من تأمين العدد اللازم وكان الغرض من لقائي معه ضمان عدم تفكك جبهة المعارضين للمرشح الشهابي. حين رشحنا سليمان فرنجية، ومن دون تواضع مزيف، ذهبت الى جريدة "النهار" وتستطيع أن تسأل الأستاذ غسان تويني. قلت له ليس هناك إلا سليمان فرنجية يستطيع ضمان تأييد فؤاد غصن ونسيم مجدلاني ويمكن النجاح فيه. اتصلت بريمون اده فوافق. اتصلت بكميل شمعون فقالوا لي انه نائم. قلت: "ايقظوه". وضعته في الجو.

ذهبت الى بيت سليمان فرنجية وكان مجتمعاً مع صائب سلام وقلت لحبيب كيروز أكتب: "اجتمع تكتل الوسط وقرر ترشيح السيد سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية". الحقيقة أن صائب بك كان محرجاً بعض الشيء لأنه كان يفضل ريمون اده.

عقدت جلسة الانتخابات وجاء الصوت الأخير لمصلحة سليمان فرنجية. رئيس مجلس النواب صبري حماده أراد إعادة الانتخاب لأن النتيجة كانت 50 صوتاً لسليمان فرنجية و49 صوتاً لإلياس سركيس. الحقيقة أن الدستور صريح. في النهاية أعلنت النتيجة.

أعود الى البداية. كان النواب يتحملون مسؤوليتهم. لم يكن التدخل الخارجي، عربياً كان أم أجنبياً، علنياً. كان يدور في الكواليس ولا يتخذ طابع الفرض.

gt; كيف كانت علاقتك مع الرئيس فرنجية؟

- سبق وقلت إن الرئيس فرنجية رجل مناقب لكن اختلفنا معه في النهاية. وقد غادر فرنجية القصر بفعل القصف وانتقل الى مكان آخر. أنا مثلاً كنت ضد هيئة الحوار الوطني. الحوار يكون في مجلس النواب ما دام المجلس منبثقاً من انتخابات حرة.

gt; من جاء بإلياس سركيس رئيساً في 1976؟

- كان هناك تصميم سوري على وصول سركيس. في تلك المرحلة كانت بدأت علاقتنا مع الرئيس حافظ الأسد وكانت قائمة على الاحترام والمودة. فاتحني الرئيس الأسد بموضوع سركيس قائلاً إن لديه صفات جيدة. أنا كنت مؤيداً لترشيح ميشال الخوري نجل الرئيس الراحل بشارة الخوري. فهمت لاحقاً انه كان هناك نوع من الاتفاق الدولي مع سورية على اختيار سركيس. لا أريد أن يفهم إنني اعتبر سركيس صنيعة للأجنبي. سركيس خلوق وممتاز لكنني أفضل أن يتسم الرئيس بالقدرة على الإقدام والحزم. لم أكن مقتنعاً به. كان ظل فؤاد شهاب وأمين سره ومن يعتاد على هذه الأدوار يصعب عليه أن يجلس في المقدمة. في النهاية تخلينا عن ميشال خوري. ولم يكن لريمون اده حظ فقد رشحه الفلسطينيون و "الحركة الوطنية".

عندما حان موعد الانتخاب لم يكن جاء أحد من النواب. أنا جئت من بيروت الغربية تحت الرصاص. عندما أُذيع نبأ وصولي بدأ النواب في المجيء. الحقيقة أن انتخاب سركيس رافقته أجواء من الترهيب بهدف منع انتخابه.

gt; لماذا أيّدت وصول بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية؟

- يجب وضع الحدث في إطاره. كان العمل الفلسطيني المسلح على النحو المعروف. وكان هناك بين الفلسطينيين من يدعو الى تحرير فلسطين انطلاقاً من لبنان. حصلت مشادات بيننا وبين الممثلين الفلسطينيين في لقاءات برلمانية. قلنا لهم لا يجوز أن تعرّضوا لبنان للخطر في حرب تفوق قدرته وتنذر بإضاعة لبنان أيضاً بدلاً من تحرير فلسطين. كان همّنا عدم إعطاء إسرائيل ذريعة لتدمير لبنان.

غزا الإسرائيليون لبنان في 1982. وأقول هنا، ومع الأسف الشديد، إن كثيرين ومن كل الطوائف اعتبروا إيقاف العمل الفلسطيني بمثابة نوع من الإنقاذ. لم يكن الجنوبيون مقتنعين بأن ممارسات المقاومة، التي يدفع أهالي القرى ثمن الردود الإسرائيلية عليها، ستؤدي الى تحرير فلسطين. في الداخل كان الوضع عملياً في يد الميليشيات. كان بشير الجميل زعيماً لميليشيا "القوات اللبنانية" التي تكونت بفعل الخوف من الانتشار الفلسطيني المسلّح.

أنا أصف هنا ما كان قائماً وما أُعلن ولست في وارد التبرير لأحد أو الدفاع عن أحد. في البداية كانت علاقتي مع بشير الجميل سلبية جداً. وأنا الوحيد الذي قال إن مجلس النواب (في قصر منصور آنذاك) يتعرض لاطلاق النار والقصف من المنطقة التي تسيطر عليها "القوات اللبنانية". ووصل الأمر الى حد اطلاق النار على مكان كنا نتناول الغداء فيه في بلدة يحشوش (في كسروان).

التقيت بشير الجميل مرات عدة في منزل شخص أثق فيه هو طارق حبشي وكان نائباً آنذاك. اجتمعنا على ما أذكر خمس مرات. خرجت من لقاءاتي معه بانطباع انه ليس عميلاً لإسرائيل، وإن كان من المتعاملين معها كونه حصل على سلاح منها. كان يعتبر الخطر الفلسطيني داهماً وينطلق في الحديث عن هذا الخطر من موقع لبناني. شعرت انه بريء ويمكن أن تُغسل دماغه أو تؤثر على قناعاته.

استطيع القول إنني ساعدته على تفهّم مسؤولية لبنان العربية وضرورة أن ينهض رئيس الجمهورية بهذا الدور. لا بل إنني شددت على أن لبنان بحكم تركيبته وعلاقاته يجب أن يلعب دوراً طليعياً في الصراع مع إسرائيل.

اقتنع بشير بكل ما قلته له وبدا لي انه سيتصرف كرئيس ضمن الضوابط الوطنية. هناك نقطة أخرى. كان بشير المرشح الوحيد للمسيحيين. حصلت موجة ربما ساهم في اتساعها حصول الاجتياح. في المقابل اختار المسلمون ممارسة فيتو ضد بشير الجميل لكنهم لم يرشحوا منافساً له. هنا شعرت أن البلاد مهددة بفراغ دستوري اعتبرته دائماً من أهداف إسرائيل لتمزيق لبنان أو فرض دورها.

كنت أول مسلم يعلن تأييده لبشير الجميل ثم كرّت السبحة. أعود وأقول تفهّم بشير طبيعة التركيبة اللبنانية وتفهّم دور لبنان العربي.

gt; ذهبت الى سورية في تلك الفترة وقيل انهم طلبوا منك السعي الى عدم انعقاد جلسة مجلس النواب؟

- هذا الكلام عار عن الصحة. جاءني الضابط محمود مطر وهو قريب من السوريين. قال لي إن (وزير الخارجية السوري) عبدالحليم خدام سيأتي الى شتورة للاجتماع بك والبحث معك في موضوع انتخابات الرئاسة. أجبته أنا أفضّل أن اذهب الى رأس النبع والتقي الرئيس حافظ الأسد وكانت بيننا علاقة محبة واحترام. التقيت الرئيس الأسد وشرحت له وجهة نظري ومخاوفي من فراغ دستوري تراهن عليه إسرائيل، ولفته الى جو الانقسام الطائفي القائم. وكانت عبارة الرئيس الأسد هي التالية: "الخيار صعب". قلت للرئيس السوري إن بشير الجميل ليس شخصاً مرتهناً لإسرائيل وأنا أؤكد ذلك. كرر الأسد إن "الخيار صعب". لم يحصل خلاف. كان بيني وبين الرئيس الأسد علاقة محبة واحترام. لم يطلب مني شيئاً يتعلق بالجلسة. كان خدام حاضراً في اللقاء ولم يتحدث.

عقدت الجلسة بعدما انتظرنا طويلاً اكتمال النصاب واللافت أن أبرز معترض على هذا الانتظار كان الرئيس كميل شمعون وليس الجانب السوري.

gt; ألم تلتقِ خدام قبل الرئيس الأسد؟

- التقيته وبدأ معي بالحديث، فقلت له لنبحث الأمر مع الرئيس الأسد. أريد أن أقول إن التطورات أظهرت أن بشير الجميل لم يكن مرتهناً لإسرائيل وأنه ذهب الى نهاريا واصطدم مع مناحيم بيغن. ولا استبعد أن تكون لإسرائيل يد في اغتياله فـ "القوات اللبنانية" كانت مخترقة، والدليل انها لم تسلّم القضاء ملف التحقيق الذي أجرته بعد الاغتيال. أدلى بشير بتصريح قال فيه انه يريد أن تكون للبنان علاقات ممتازة مع سورية، وأنا كنت قد اقترحت عليه استخدام تعبير علاقات مميزة. اتصلت به فقال، قلت ممتازة. فأجبته وعلاقتنا يجب أن تكون ممتازة مع الجميع ومميزة مع سورية. لم تكن لديه الحساسية الكافية على التعابير في العربية. في اليوم التالي استخدم كلمة مميزة.

gt; هل تفاهمت معه على خطوات معينة؟

- تفاهمنا على مبادئ عامة، لبنان عربي وصاحب رسالة عربية. كان بشير الجميل مخلصاً ولديه نوع من الطهر. ليس لديّ أي شك في وطنيته. اقتنع أن لبنان يجب أن يكون صاحب دور. عندما ذهب الى نهاريا رفض أن يبرم اتفاقاً مع إسرائيل.

الرئيس صائب سلام التقى بشير بعد انتخابه واعتقد انه اقتنع به.

gt; تولى أمين الجميل الرئاسة فكيف كانت تجربتك معه؟

- الاستحقاق الأهم كان "اتفاق 17 أيار". ومرّة جديدة أقول إن أي حدث يجب أن يُناقش في الإطار الذي جرى فيه. كان لبنان محتلاً ومن الطبيعي أن تكون الأولوية لإزالة الاحتلال. ثم انه كان من المطلوب أن يتخلص لبنان من الاحتلال بأسرع وقت ممكن لقطع الطريق على أي فتنة تسعى إسرائيل الى إثارتها. صحيح انه كان لدينا القرار 425 لكنه لم يكن مطبّقاً أسوة بقرارات كثيرة لمجلس الأمن.

جاء الجانب الأميركي وأبدى استعداده لمساعدة لبنان على ضمان انسحاب إسرائيل بموجب صيغة لا تفرض قيوداً على لبنان أو التزامات تتناقض مع انتمائه العربي. سُئلت في تلك المرحلة عن فكرة المفاوضات المباشرة فقلت إنني لا أرى مانعاً ما دام الهدف استعادة الأرض والسيادة وما دام الأمر لن يمسّ بالثوابت الوطنية والقومية. وهكذا كان.

هذه هي الأجواء التي وافق لبنان على أساسها على التفاوض. أذكر إنني كنت والرئيس شفيق الوزان والأستاذ غسان تويني في مكتب الشيخ أمين الجميل وتلقى اتصالاً من المرحوم الرئيس حافظ الأسد. تحدث الشيخ أمين وبعد انتهاء المكالمة سألته عن الجو فراح يعيد عليّ ما قاله للرئيس الأسد. قلت له سمعت ما قلته أنت، ماذا قال الرئيس السوري؟ فأجابني أن الأسد قال له أنا أثق بك وبأنك تعمل من أجل إنقاذ بلدك. لكنني حتى اليوم لم أفهم لماذا سمّاه الرئيس الأسد لاحقاً "اتفاق الإذعان". للأسف لم ألتق الرئيس الأسد بعد ذلك التاريخ.

الحقيقة أن الاتفاق ينص على الجلاء من دون قيد أو شرط. هناك جملة تتحدث عن إنهاء حالة الحرب. ولم يكن المقصود منها إقامة سلام بل العودة الى اتفاق الهدنة. لم يكن هناك ما ينص على إبرام معاهدة سلام أو على تطبيع. أنا اعتقد أن "اتفاق 17 أيار" أشرف بكثير من صيغة مدريد. في صيغة مدريد هناك الأرض في مقابل السلام أي الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات معها. "اتفاق 17 أيار" لم ينص على مقابل للجلاء الإسرائيلي وبهذا المعنى فإنه يعكس روحية القرار 425. العرب يتمسكون اليوم بشرعية مدريد الدولية وهو ما لا تسلّم به إسرائيل. وهذه الشرعية تنص على الاعتراف بإسرائيل وإقامة صلح معها وعلاقات وتبادل سفارات وتطبيع. هذا هو "اتفاق 17 أيار" كما قدم لنا وكما عرفته. ثمة من يقول انه كانت هناك اتفاقات سرية. لم نعرف بشيء من هذا النوع. وكان على الذين تحدثوا عن الخيانة أن يشرحوا الأسباب وما إذا كانت لديهم معلومات ليست في حوزتنا.

الإسرائيليون نقضوا الاتفاق والأميركيون تخلّوا عنه. صباح ذات يوم قرأت تصريحاً لروبرت ماكفرلين مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي يقول فيه إن لبنان لا يستطيع السير في "اتفاق 17 أيار" بسبب عدم وجود اتفاق لبناني حوله. وكان ماكفرلين في القصر الجمهوري في لبنان. أرسلت وراءه فجاء الى مجلس النواب وسألته عن التصريح. وقلت له أين توجد موافقة بنسبة 99 في المئة في بلد ديموقراطي وأفهمته أن كلامه يعتبر تدخلاً في الشأن الداخلي. تفهّم ماكفرلين موقفي. اتصلت بالرئيس الجميل والتقينا عنده في اليوم التالي.

لا أريد القول إن أمين الجميل بلفنا لكنه لم يقل لنا كل الحقيقة. كان متفقاً مع الأميركيين على إلغاء الاتفاق. لم يقل لي هذا الأمر. كان الجميل يقول لماكفرلين: "كامل الأسعد يتحدث باسم الدولة ككل". سأل ماكفرلين: "ماذا أفعل إذاً؟". قلت له: "تذهب الى الرئيس ريغان وتقول له إن الدولة اللبنانية مستمرة في الموضوع". فهمت لاحقاً أن الشيخ أمين أبلغه موقفاً آخر بعد مغادرتي.

الحقيقة إنني كرئيس للمجلس كنت في هذا الموضوع في وضع الزوج المخدوع أي آخر من يعلم. كنت أتعاطى مع الكلام الرسمي ولم أكن مهتماً بما يدور في الكواليس. قيل إن الدولة اللبنانية اتفقت مع السوريين على الانسحاب لإحراج الإسرائيليين. ثم جاءت إسرائيل وطالبت بتزامن الانسحابات. الاتفاق يلزم الطرفين ولا يلزم شخصاً ثالثاً. أبرم المجلس "اتفاق 17 أيار". عقدت جلسة الحوار في لوزان، وجاء بعدها الدكتور إيلي سالم (وزير الخارجية) ليهنئني على موقفي فســـألته لماذا ذهبت إذاً؟ كنا قد شكّلنا لجنة طوارئ نيابية تمثل كل المجلس وقلنا إننا لا نقبل إلغاء الاتفاق من دون توفير بديل.

حين أُلغي الاتفاق فرط النواب. السياسيون يغيّرون مواقفهم. وبهذا المعنى انقذني تولي حسين الحسيني رئاسة المجلس النيابي خلفاً لي من إحراج إذ لم يكن في استطاعتي قبول الطريقة التي اعتمدت في التعامل مع شأن بهذا الحجم.

gt; لم تلتق الرئيس الأسد بعد ذلك؟

- نعم. الحقيقة لو إنني كنت أعرف انه في حال الخطر صحياً لما عدمت وسيلة لرؤيته. كانت بيننا علاقة مودة واحترام. حدثت ملابسات قبل ذلك. ربما أكون مسؤولاً عن جانب منها في موضوع عدم التجاوب.

في 1990 كنت في باريس وكان هناك عدد من النواب الذين تركوا المنطقة الشرقية بسبب القصف، زارني النائب الشيخ مخايل الضاهر وقال لي إن الرئيس إلياس الهراوي اقنع الرئيس الأسد بأن تتولى أنت رئاسة المجلس النيابي. كان ذلك قبل إطاحة العماد ميشال عون. قلت له: "أنا تهمّني الوسيلة. ربما إذا كان هناك تفاهم، أنا أطلب تولي وزارة الداخلية لإرساء قواعد الأمن بعد الفلتان، لكن هل تريد إقناعي أن الرئيس الهراوي يمكن أن يقنع الرئيس الأسد أو يمون عليه. أعتقد أن الهراوي يذهب ويتسلّم اسم الرئيس الجديد للمجلس".

gt; تعيشون في شبه غربة عن النظام الذي قام بموجب اتفاق الطائف، لماذا هذه الغربة؟

- النظام شيء وآلة الحكم شيء آخر. بالنسبة الى النظام كنصوص نحن لدينا مآخذ على الجو الذي كان مسيطراً عندما ولدت صيغة الطائف. كان الجو جو توزيع بين المسيحيين والمسلمين. أي يأخذ المسلم الصلاحيات ويعطي الأمن للمسيحي. بمعزل عن انتمائنا الديني نقول إن هذا الجو ليس وطنياً. أنا أقول إذا كانت مصلحة الدولة تقضي أن يأخذ رئيس الجمهورية صلاحيات فليأخذها. إذا كانت مصلحة الدولة تقضي بأن ننزع منه بعض الصلاحيات فلتُنزع.

gt; كيف ترى وضع الطائفة الشيعية اليوم؟

- أنا اعتبر أن هناك مجتمعاً أهلياً موحداً. لا يسيء الى هذا المجتمع وجود أديان ومذاهب. الطائفة الشيعية هي جزء من هذا المجتمع ومصلحتها من مصلحته. الشيعة جزء من هذا الشعب. يحكى اليوم عن ولاءات لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك. لا أحد يقوم باستفتاء الناس. لا شك أن "حزب الله" استقطب فريقاً كبيراً. المشاعر الوطنية والمقاومة والمشاعر الدينية. وهناك المساعدات الإيرانية ودورها. أعطيك مثلاً: حين يتحدث السيد حسن نصرالله (الأمين العام لـ "حزب الله") في المحتشدين في ذكرى عاشوراء ويطلق مواقف سياسية فهذا لا يعني أن كل الحاضرين يتفقون معه في كل ما قاله. يمكن أن يجمعوا على محاربة إسرائيل لكن قد تختلف مواقفهم بالنسبة الى الباقي. أنا اعتبر أن الوحدة بين اللبنانيين موجودة وقائمة وأن محاولة إظهار الانقسامات مفتعلة.

gt; بعد هذه التجربة الطويلة، أين أخطأت؟

- ربما أكون أخطأت في اتفاق 17 أيار (مايو) لأنني لم أذهب في البداية لرؤية الرئيس حافظ الأسد وتذليل الصعوبات إذا وجدت. تركنا الأمر للشيخ أمين (رئيس الجمهورية). ربما كنت أخذت بمآخذه وربما كنت حاولت إقناعه. الشيخ أمين قال انه متفاهم مع السوريين وصدّقنا. في الباقي اتخذت دائماً المواقف المنسجمة مع قناعاتي الوطنية. في موضوع التجديد لفؤاد شهاب لم تكن لي مصلحة شخصية. لم أحب أن يوحي رجل، مهما كانت صفاته، أن لا أحد غيره في البلد يتمتع بمثل هذه المواصفات.

gt; هناك شكوى من أنك تعامل السياسيين بنوع من التعالي كونك وريث زعامة؟

- المسألة لا علاقة لها بالتعالي. أنا أناقش واقتنع، لكنني أعتبر أن على المسؤول أن يحترم نفسه وأن لا يسيء الى موقعه.

gt; كيف تمضي وقتك؟

- أمارس الرياضة وأدير مكتب المحاماة. الدعاوى المرفوعة ضدي تحتاج الى مكتب. للأسف السياسة اليوم توجه بعض القضاء. القضاء يخضع للسياسة أيضاً وليس للقدر وحده.

gt; انتخبت نائباً في 1953 ويقولون إنك كنت في العشرين؟

- نعم أنا من مواليد 1933 وقمت بتكبير سني مرتين لأستوفي الشروط، بمعنى أنني صرت رسمياً من مواليد 1928.

gt; بعد نصف قرن من العمل السياسي والنقابي، هل تشعر بأنك أديت ما تطلّعت إليه أم إنك تشعر بالمرارة؟

- لديّ شعور بأنني أدّيت ما استطعت تأديته وبانسجام تام مع قناعاتي. الناس صنفان، صنف يتبع مصلحته ولو كانت على حساب المصلحة العامة، ولعل هذا الصنف يمثّل الأكثرية الساحقة في العالم اليوم حيث تحول كل شيء الى "بيزنس"، وهناك صنف آخر يهتم المنتمون إليه بالانسجام مع أنفسهم والصدق معها، وهؤلاء أقلية بالتأكيد. أقول صادقاً إنني كنت دائماً على اتفاق مع ضميري. وأنا أعتبر أن مصلحتي الفعلية والأولى هي أن أكون متفقاً مع ضميري. لقد اتخذت مواقف ضد مصلحتي الخاصة والمباشرة، أنا أعيش مع ضميري 24 ساعة ولا أقبل أن أخلّ بانسجامي مع نفسي. من هذا المنطلق اتخذت مواقفي، ربما لم أنجح في كل ما تطلعت إليه والسبب أن قوى الشرّ أوسع وأكبر. لم أعتبر يوماً أن لمنصب قيمة إذا كان الوصول إليه أو الاحتفاظ به يدخلني في خلاف مع ضميري وقناعاتي أو احترامي لمبادئي ولنفسي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف