جريدة الجرائد

العرب ومسألة مصر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



بشير موسى نافع


في الذكرى الثامنة والخمسين لثورة يوليو 1952، انطلق الجدل من جديد داخل مصر وفي المجال العربي حول دور مصر وأوضاعها. بعض من العرب والمصريين يرى مصر الآن صورة مشوهة لمصر عبدالناصر، وبعضهم الآخر يراها أنها تمر بحقبة فقدان وعي، بالمعنى المرضي تنتظر من يوقظها من سباتها، قائدا أو حدثا أو صدمة هائلة. قاد عبدالناصر مصر بعد فترة اضطراب قصيرة في مطلع سنوات الثورة نحو دور يواكب حجمها وتاريخها وموقعها الجيوبوليتكي. عزز هويتها العربية ودورها القيادي العربي الذي بدأت مترددة في تعهده منذ نهاية العشرينيات، وحاول جاهدا أن يستند إلى العمق العربي ليجعل من مصر قوة إقليمية وعالمـثالثية، وقوة ذات صوت مسموع على مسرح الحرب الباردة. وقد صاحبت هذا الأفق العربي-الخارجي نهضة صناعية وتعليمية وثقافية وفنية، وسياسة جذرية واسعة النطاق لإعادة بناء الهيكلية الاجتماعية للمصريين. ولكن مصر عبدالناصر واجهت عقبات هائلة على المستويين الداخلي والخارجي. ولم تكن معارضة نظام الحكم المركزي الشديد القبضة داخل البلاد أقل من العداء الإسرائيلي-الغربي الذي استهدف تقويض المشروع الناصري وتحجيم دور مصر وتأثيرها.
ولعبت الأعباء المترتبة على هذه العقبات، والتي كانت قد وصلت ذروتها في الهزيمة المصرية-العربية في 1967، دورا رئيسا في التحولات التي شهدتها مصر ما بعد عبدالناصر. بغض النظر عن تكوين السادات ونوعية العلاقات التي أحاطت به، فقد استبطنت سياساته محاولة إيجاد مخرج سريع وسهل وغير مكلّف من واقع الأزمة التي واجهت مصر، سياسيا واقتصاديا. لم ير السادات أن مشاكل الدول الكبيرة والتحديات التي يفترض أن تواجهها تكون كبيرة هي الأخرى، ولجأ بالتالي إلى طريق التحالف مع الولايات المتحدة وعقد اتفاقية سلام دائم مع الدولة العبرية. لم يكن السادات زعيما مبتدئا، ولم يكن قليل الخبرة بشؤون مصر ودورها وسياساتها الداخلية والخارجية، وكان يعرف بالتالي أن لاختياراته الاستراتيجية الجديدة ثمناً. ولكنه قدّر أن هذا الثمن أقل من الفوائد والمردودات التي ستجنيها مصر من التحول الاستراتيجي الذي اختاره. حكم عبدالناصر فعليا 16 عاما، منذ حسم التحديات الداخلية التي واجهها نظام يوليو وأحكم قبضته على مقاليد القرار وشؤون الدولة، ويسيطر نظام ما بعد عبدالناصر على الحكم منذ أكثر من 35 عاما، على اعتبار أن قرار التحول الاستراتيجي في بنية مصر وسياستها الخارجية اتخذ في 1974 وليس مباشرة بعد تولي السادات رئاسة الجمهورية في خريف 1970، وهو ما يسوغ المقارنة بين إنجازات الحقبتين. ورغم أن مصر تبدو اليوم أكثر حداثة -إن صح التعبير- وأكثر ثراء، وتعيش سلما طويلا مع جوارها، وأكثر تسامحا مع قوى المعارضة السياسية، فإن المقارنة ليست لصالح نظام ما بعد السبعينيات. ليس هذا بالطبع مجال تناول تفاصيل هذه المقارنة، ولكن الواضح بلا شك أن ثمة تآكلا مطردا في حجم مصر ودورها وتأثيرها، وتناقضات لا تقل وطأة على مستوى بنية الحكم والمجتمع. فقد تحولت وعود الحرية والديمقراطية إلى تقليص في مساحة المشاركة في الحكم والسلطة والقرار الوطني، ووعود الرفاه والنهوض الاقتصادي انقلبت إلى انهيار حثيث للمؤسسة التعليمية، وسيطرة طبقة محدودة على مصادر الثروة والحقل الاقتصادي، واتساع نطاق الفوارق الاجتماعية، أما السلم الطويل فقد قوض قدرة مصر على تأمين تماسكها الوطني، وبات مصدر تهديد لمقدرات البلاد الاستراتيجية، من ملف المياه والثروة النفطية إلى التفاوت المتفاقم بين إرادة مصر وإرادة الدولة العبرية.
ويمكن القول الآن إن "مسألة مصر" تشكل واحدة من أكبر هموم الرأيين العامين المصري والعربي. بانهيار المركز العثماني، وتجزئة الولايات العربية العثمانية، وبروز الدولة العربية القُطرية، هيمنت على المجال العربية قوتان رئيستان، أخذت كل منها تجليات وتعبيرات مختلفة بين وقت وآخر: قوة وحدوية رأت في الهوية العربية-الإسلامية إطارا مرجعيا وحدويا بديلا عن الإطار السلطاني العثماني، وقوة رأت في الدولة الوطنية الطارئة لنظام ما بعد الحرب الأولى واقعا سياسيا لا بد من قبوله والتعامل معه كمعطىً ناجز، لا يمكن تجاوزه إلا بتوافق تعاوني على أكثر تقدير. ولكن لم تنجح أي من القوتين في تحقيق أهدافها. فلا الوحدويون استطاعوا بناء مجال عربي سياسي موحد في أي إطار كان، ولا استطاع دعاة الدولة القُطرية المحافظة على استقرارها واستقلالها، وتأمينها من قوى التشظي الداخلية، ناهيك من إخفاق مشاريع التنمية والرفاه. ولكن كلا التيارين لم يُغفل أهمية مصر ولا وزنها ودورها وموقعها. أصبحت مصر -على نحو واضح أحيانا ومستبطن في أحيان أخرى- مركزا جديدا للمنطقة افترض المصريون والعرب أنه البديل عن المركز العثماني. بعد فترة قصيرة من تعلق الآمال بالعراق الملكي، رأى الوحدويون العرب أن مصر بطبيعتها قادرة على قيادة مشروع الوحدة، ورأى دعاة الدولة القُطرية، حتى أولئك الذين ناهضوا التوجه القومي لعبدالناصر، علناً أو خفية، أن مصر ملجأ لهم عند الأزمات وتعاظم التهديدات.
بتراجع دور مصر وانحسار تأثيرها، كان طبيعيا أن تولد "مسألة مصر"، أن يبدأ المصريون والعرب البحث عن إجابة على سؤال لماذا وقع هذا الغياب والتراجع؟ وكيف يمكن استعادة مصر ودورها؟ يقلق المصريين أن لا العالم ولا العرب يأخذونهم وبلادهم مأخذ الجد، وأن المساحة التي أخْلَتْـها دولتهم من التأثير والنفوذ باتت مجال تنازع لدول عربية أقل وزناً وتأثيراً ومقدرات، أو قوى إقليمية نشطة وطامحة. ويُقلق العرب فقدان الدولة القائدة والملجأ على السواء. الحقيقة أن بحث الطرفين عن إجابات عن أسئلتهم سيطول، أكثر بكثير مما يظنون.
ثمة مشكلة بلا شك تتعلق بنوعية الطبقة التي تتحكم بمقاليد مصر، وقد تفاقمت هذه المشكلة بالتأكيد خلال العقد الأخير، بفعل طموحات محدودة وضيقة. ولكن المشكلة الأكبر تتعلق بالخيار الاستراتيجي لما بعد حرب أكتوبر 1973. توقيع معاهدة السلام مع الدولة العبرية لم يكن مجرد خيار سياسي صغير لحل مسألة الاحتلال والحفاظ على سلامة ووحدة التراب الوطني. معاهدة السلام كانت خيارا هيكليا، بالغ التأثير والعمق؛ لأن ولادة الدولة العبرية ارتبطت ارتباطا شرطيا بالهزيمة العثمانية وبنظام ما بعد الحرب العالمية الأولى في المشرق العربي-الإسلامي، فقد أصبح مصير المنطقة ومستقبلها مشروطا بالاتجاه الذي سيأخذه الصراع العربي-الإسرائيلي وخيارات أطرافه. بكلمة أخرى، كان تخلي مصر عن دورها ومسؤولياتها، وقبول مصر بمحدودية تأثيرها ونفوذها، الثمن المستبطن للانسحاب الإسرائيلي من سيناء وتوقيع معاهدة السلام. تسببت شروط السلام في تآكل الإرادة المصرية، وأصبح على مصر أن تسلك سلوك دولة أصغر من حجمها الحقيقي، وباستمرار التشوه في سلوك مصر السياسي وصناعة قرارها، لم يعد من الممكن محاصرة انحسار الدور والنفوذ. ولم تعد "مسألة مصر" بالتالي محصورة بدائرة الصراع العربي-الإسرائيلي، بل تفاقمت في صورة مطردة، لتطال المجالين العربي والإفريقي، إضافة إلى أغلب دوائر الشأن المصري الداخلي. لا تعاني مصر من "كوما" باثولوجية، بل من عواقب ونتائج خيار انتهج عن سابق تصميم وتصور، لم ير من اتخذوه والتزموا به بعد ذلك حجم الثمن الذي رتب على مصر دفعه، ولا يبدو أنهم على استعداد لمحاولة الرؤية بعد. الخيارات السهلة ليس من السهل دائما التخلي عنها.
هذا لا يعني بالطبع أن مصر لم تشهد من آن لآخر صحوات دور، تجلى خلالها ولو بعض مما لا بد أن يكون. الحقيقة أنه حتى في العهد الساداتي -كما شهدنا في رد فعل القاهرة على الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982- أظهرت مصر الجديدة صعوبة التعايش مع شروط معاهدة السلام. ولعل موقف مصر مبارك في النصف الثاني من التسعينيات ضد اتساع نطاق التطبيع العربي-الإسرائيلي، والانتشار الإسرائيلي المتسارع في المجال العربي، ومن ثم ولادة المحور المصري-السوري-السعودي، كان مثالا بارزا على صحوة الدور. مثل هذه الصحوات لعبت -وتلعب- دورا هاما في إطالة أمد "مسألة مصر" في الوعيين العربي والمصري، والحفاظ على الشعور بأن ثمة مخرجا قريبا لأزمة الغياب وتراجع الدور. ولكن الواقع أن هذه الصحوات كانت دائما قصيرة الأمد، وأنها تبدو الآن كاستثناءات في سياق تاريخي لم يعد من المجدي تجاهل عقوده التي تقترب من نهاية رابعها. الشروط التي فرضت على مصر أثقل بكثير مما يظن، وعواقب القبول والركون لهذه الشروط أفدح بكثير مما يعتقد، وعطب الروح الذي أوقعته في دوائر صنع القرار المصري أعمق حتى مما يبدو للعيان.
لا تستبطن هذه القراءة دعوة لفقدان الأمل أو اليأس من المحاولة، فتاريخ الأمم الكبيرة، الأمم التي تستند إلى مواريث كبرى، يعرف شواهد لا تحصى على الاستعادة السريعة والطفرية للدور والحجم والتأثير. ما تستهدفه هذه القراءة هو الدعوة إلى التحرر من مناخ الانتظار والشعور القاهر بالفقدان الذي يتخلل الرؤية العربية لمصر ودورها، وأن يعمل العرب، دولا وشعوبا، رسميين وغير رسميين، على تدبر شؤونهم، بغض النظر عن الزمن الذي ستأخذه عودة مصر إلى ذاتها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف