الأزهر الذي كاد أن يخبو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
احميدة النيفر
حرص عدد من المشاركين في الملتقى العالمي الخامس لخرّيجي الأزهر المنعقد في القاهرة شهر مايو الماضي، عند بحث موضوع "وسطية الإسلام وأهميتها في مواجهة الغلو والتطرّف"، على تحذير "العالم الإسلامي السُّني من التمدد الشيعي". ذهب بعض المشاركين البارزين في الملتقى إلى التأكيد على ضرورة التصدي لهذا الخطر الزاحف على المنطقة من خلال "القنوات الفضائية والشعارات الإيرانية واستضافة الطلبة السُّنة للدراسة في الحوزات الإيرانية". أما الترياق الشافي من هذا "الوباء" -وفق تشخيص مشارك تبوأ مسؤولية الشؤون الإسلامية والأوقاف في بلاده طوال سنوات مديدة- فهو "توحيد أهل السُّنة وإزالة أي خلافات مذهبية بينهم". جاء هذا التحذير ضمن أعمال الملتقى الذي شارك فيه خريجو الأزهر من بلدان عديدة لبحث منهج الإمام أبي الحسن الأشعري وفكره، وضرورة الأخذ بمنهجه لمواجهة الخلافات المذهبية والفكرية في العالم الإسلامي. من أهم ما يلاحظ أن الملتقى تمّ تحت رعاية الإمام الدكتور أحمد الطيّب، الذي لم يمض على تسميته شيخاً للأزهر أكثر من شهرين خلفاً للشيخ محمد سيد طنطاوي الذي وافاه الأجل أوائل شهر مارس 2010، في أعقاب زيارة كان يؤديها للمملكة العربية السعودية. يضاف إلى ذلك، أن طبيعة موضوع الملتقى الساعي إلى موئل موحِّد للعالم الإسلامي السنّي مستمد من التراث العقدي، لمواجهة مصاعب فكرية وحضارية واجتماعية معاصرة، يثير أكثر من تساؤل عن المرجعية العلمية والفكرية للمؤسسة الأزهرية، وأثر ذلك في مكانتها الفعلية في مصر وفي العالم الإسلامي.
هل تتأتّى مواجهة قضايا حضارية حديثة بوصفات عقدية وفكرية استُحضرت لسياقات تاريخية مختلفة؟ كيف يمكن أن يفسر هذا الانزياح في بحث موضوع الوسطية ضمن مؤسسة علمية عريقة مثل الأزهر نحو توظيف سياسي طائفي فجّ؟ ألا يُثبت هذا التوجه الإيغالَ الذاتي في الاستتباع السياسي الذي تعيّن بصورة جلية مع صدور قانون "تطوير الأزهر" سنة 1961، والذي خوّل لرئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر وتعويض هيئة كبار العلماء بمجمع البحوث الإسلامية؟ أيمكن في مثل هذا السياق تناول جِدّيٌ لظاهرة تعدد الفتاوى خاصة بين دار الإفتاء التابعة لوزارة العدل، ومجمع البحوث الإسلامية؟ هل يكون من المتاح القول بإمكانية تجديد الخطاب الديني وتطوير جامعة الأزهر والرفع من المستوى العلمي لخريجيها بعد أن انحسر التكوين الأزهري -في أفضل الحالات- في الاقتصار على تخريج وعّاظ بضاعتهم العلمية مزجاة، مع فقدان لأية صلة بالفكر والثقافة المعاصرين؟
عند متابعة الخطوات الأولى لشيخ الأزهر في الأشهر الأربعة التي وليت تسلمّه مهام منصبه الجديد، نكتشف عناصر هامة مضيئة للتساؤلات السابقة، ومعيدةً بعض الأمل الذي كاد أن يخبو في إحدى المؤسسات الكبرى العلمية بالعالم العربي الإسلامي. بادر الدكتور أحمد الطيب بالإعلان عن استمرار مسيرة التطوير التي بدأها في جامعة الأزهر بالتعاون مع الرئيس الجديد للجامعة، وذلك بإعادة تدريس المذاهب من جديد، وبتعميم تدريس اللغات بكليات الجامعة وبالأخص الكليات الشرعية. القصد المعلن من ذلك هو البلوغ بخريجي الأزهر إلى أن يكونوا متضلعين في الدراسات الشرعية مع تكوين معاصر يجعلهم فاهمين للواقع ومستوعبين للمتغيرات الفكرية والثقافية. في هذا يصرّح الإمام الأكبر قائلا: "إننا نسعى لكي يجيد خريج الأزهر اللغات، ويفهم صحيح الإسلام بمنهجه المعتدل، ويجمع بين التراث والمعاصرة". من ناحية المنهج الفكري لا يزيد الدكتور أحمد الطيب على القول بأن من أولويات التكوين الأزهري "نشر منهج الإسلامي الوسطي المعتدل"، باعتبار أن "الأزهر هو الحارس الأمين على وسطية الإسلام واعتداله، لأن مناهجه الدراسية تقوم على نشر التسامح ونبذ التعصب والابتعاد عن الغلو والتطرف".
في مستوى ثانٍ وتجليةً لجوانب من مفاهيم الغلو والتطرف والتسامح والوسطية التي كثر تداولها والتي تحمل أكثر من معنى، يجدر التذكير بحرص الدكتور أحمد الطيب قبل توليه منصب مشيخة المؤسسة الأزهرية في فترة رئاسته لجامعتها، على تدعيم المكانة العالمية للمؤسسة ولخريجيها.. تحقق ذلك بتدشينه الرابطة العالمية لخريجي الأزهر بالخارج للتعاون معهم، حتى يكونوا حلقة وصل بين رسالة الأزهر والمجتمعات التي يعيشون فيها. في هذا المنحى الانفتاحي العالمي تأكيد على وحدة المسلمين بما يعني ضمنيا القبول بالخلاف بين المسلمين وغيرهم، وأنه أمر وارد ضمن إطار احترام كل طرف للآخر، وألا يكون الخلاف للتكفير أو النيل من المخالف.
السؤال الذي يبقى عالقا هو: إذا اعتمدنا مبدأ وحدة المسلمين وقبلنا بالخلاف بينهم وبين غيرهم من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى، فكيف ينبغي أن يكون الأمر مع أبناء الملّة الواحدة من أصحاب الطوائف التي تختلف مع أهل السنة والجماعة؟
هنا نصل إلى المستوى الثالث والأهم من موضوع المؤسسة الأزهرية في السياق الحالي من تاريخ مصر المعاصر خاصة، ومن استحقاقات العالم العربي الإسلامي التي تفرضها التحولات العالمية ثقافيا وفكريا واجتماعيا بصورة عامة.
في هذا المستوى يبرز أمامنا عنصران هامّان: أولهما، استقالة الدكتور أحمد الطيب من عضوية لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم. أما الثاني فهو حواره مع نقيب الصحافيين بجريدة الأهرام المنشور في العاشر من هذا الشهر، حيث باشر قضايا شائكة بكثير من الوضوح والجرأة.
بخصوص العنصر الأول، أعلن الدكتور أحمد الطيب بعد تعيينه شيخا للأزهر عن تقديمه استقالته من الحزب الحاكم للرئيس المصري الذي قَبِلها. اللافت للنظر هو ما وقع تقديمه تعليلاً لهذه الاستقالة.. من جهة الحزب ذكر أن قيادات نافذة داخله هي التي طالبت الدكتور الطيب بعد توليه منصب شيخ الأزهر بالاستقالة، حتى لا تتعارض هذه العضوية مع دعوة الحزب للفصل بين الدين والسياسة، وبين المؤسسات الدينية والسياسية، علما أنه لا توجد سابقة كان فيها شيخ الأزهر عضواً في الحزب الحاكم.
من جهته أكد الشيخ أن قرار استقالته لم يأت نتيجة ضغوط من أي نوع، إنما هو قرار تستلزمه طبيعة مشاغل المنصب والتزاماته، إذ تستدعي تفرغا كاملا لا يسمح بأية انشغالات حزبية أو سياسية، رافضا في ذات الوقت مقولة فصل الدين عن الدولة. أيا كان التعليل، فإن في قضية الاستقالة ما يرمز إلى نزوع الأطراف الحاكمة والأزهرية في آن إلى قدر من التمايز المتدرج بين الطرفين، تفرضه اعتبارات عديدة من أبرزها السياق الحضاري العالمي الجديد. هو سياق يحقق التقاءً موضوعياً بين الوجهة الليبرالية الحاكمة المنخرطة في بناء نمط متميز لحياة النخب الساعية إلى الاندماج مباشرة في دائرة الثقافة والاستهلاك المعولم والخاص بها، وبين النخب الدينية الصاعدة التي لا تعتبر أن الإسلام دين تعبديّ فقط، بل تعتبره متميزا برسالته العالمية وبطبيعته الحضارية والمجتمعية. هي إضافة إلى ذلك لا تلجأ إلى منازعةِ السلطةِ السياسيةِ الحُكمَ، لكنها لا ترى في شيخِ الأزهر رجلَ السلطة الموظف عند الدولة. في ظل هذا التمايز تتجه المؤسسة الأزهرية إلى ترسيخ موقعها العلمي والاجتماعي ضمن المؤسسات التعليمية والاقتصادية خاصة.
بالعودة إلى الحوار الذي أجرته صحيفة الأهرام مع الإمام الأكبر منذ أيام، نجد المواقف الخمسة التالية التي ترجح هذا التأويل:
- لا توجد فروق جوهرية بين السنة والشيعة، كما لا تجوز الحرب بينهما، وهي في حالة وقوعها فتنة كبرى وحرام حرام.
- لا يصلح السيف أن يكون الرمز الصحيح للإسلام، بل إن انتشار هذا الأخير عائد إلى كونه دين فطرة وعقل ووجدان ساوى بين الناس ودعا إلى العدل.
- ظهور الإسلام على الدين كله لا يعني أن الناس جميعا سيكونون على دين واحد هو الإسلام، بل الاختلاف حقيقة قرآنية ستبقى قائمة دوما.
- لا يمكن لمؤسسة الأزهر أن تعمل ضد نظام الدولة وسياساتها العليا، لكن الأزهر ليس معنيّا بحمل أجندة الحكومة على عاتقه أو مباركة ما تقوم به.
- تتمثل المعضلة العربية الدينية اليوم في اعتمادها على فقهاء البادية ودعاة الشعوبية التي تتهم الجميع بالكفر، وتسعى إلى التفتيش عن معتقدات الآخرين.
تلتقي هذه المواقف الخمسة في فكرة محورية لا يخفيها شيخ الأزهر الجديد: ما كان للمذاهب المتطرفة والتيارات المتشددة أن تظهر لولا تهميش الأزهر واستبعاده عن ساحة الفعل العلمي والمجتمعي. تقدير الشيخ أن مواجهة التطرف وأخطاره تقتضي تمكين المؤسسة الأزهرية من مرجعيتها التي تآكلت علميا وثقافيا واجتماعيا. هو في ذلك لا يُخفي تأسّيه بأحد مشاهير مشايخ الأزهر، الشيخ محمود شلتوت، المعروف بعلمه واستنارته وتقريبه بين المذاهب. لذا فإن الشيخ الجديد في حواره الأخير مع الأهرام، يستحضر شكوى الشيخ شلتوت إلى الرئيس عبدالناصر من إفراغ الأزهر وإضعاف مكانته، قائلا في مراسلة رسمية: "إن لم يكن في وسع مصر في هذه الفترة الدقيقة أن تضيف إلى الأزهر أرضا جديدة، فلا أقل من أن تحافظ على الأرض التي كسبها الأزهر خارج مصر، خاصة في إفريقيا".
مؤدى استشهاد الأزهر اليوم بكلام قيل للسلطة السياسية منذ نصف قرن يحمل دلالة صريحة.. إنها المطالبة باستعادة المؤسسة الدينية الرسمية الفضاءاتِ التي أُخذت منها، مما أدّى إلى عزل الأزهر وإضعافه وتهميشه، مكلّفا الدولة والمجتمع خسائر باهظة أنهكت مصر وشتتت جهود العالم العربي الإسلامي.