القرآن كمصدر انبثاق الحضارة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الطيب بوعزة
لا يمكن فهم التكوين التاريخي للأمة الإسلامية دون فهم المنطلق النظري الذي ابتدأ به هذا التكوين. أقصد به المنطلق القرآني، إذ من بين نصوص هذا الكتاب صدرت هذه الأمة وانبثقت. ولم يسبق في تواريخ الحضارات والشعوب أن ولدت أمة من بين دفتي كتاب؛ لذا فالحضارة الإسلامية من هذه الحيثية تشكل استثناء. وليست هذه الملحوظة من عندي، بل هو معطى لاحظه العديد من الدارسين لتاريخ الإسلام. وللاستدلال على صحة هذه الفكرة يكفي أن نحلل الشروط المادية والذهنية التي سادت المجتمع العربي، قبيل نزول القرآن؛ حيث لن نجد فيها أي تحول نوعي يمكن أن يبرر أو حتى يرهص بتلك النقلة الكبرى التي سينجزها الإسلام في زمن وجيز. بل من جهة التراكم لا نجد أي معطيات تبرر ذلك التحول المنجز.
لذا فميلاد الحضارة الإسلامية يظل ميلادا فريدا لا يمكن تفسيره إلا بإرجاعه إلى القرآن كفاعل استثنائي يؤشر على حضور المطلق في التاريخ. غير أن تكوين هذه الحضارة وميلادها من بين دفتي هذا الكتاب، لا ينبغي أن يلغي النظر إلى التفاعلات الواقعية مع معطيات البناء الأخرى. كما أن التوكيد عليها لا يعني مجرد ترتيب الأولويات في النظر إلى ماهية هذه الحضارة؛ بل هو تعيين المصدر الأول لانبثاقها، الذي كيف تلك المعطيات على نحوه الخاص.
لكن قد يعترض قائل بالاستفهام التالي: إذا قلت إن القرآن هو مصدر هذه الحضارة، فإن القرآن محفوظ إلى اليوم، فلماذا لم تستمر هذه الحضارة في التألق والبروز؟ بل لماذا تعيش هذه الحضارة راهنا متأزما وتخلفا رغم حفظنا، وتلاوتنا للقرآن صباح مساء؟ وإذا كان هذا الكتاب هو مصدر ميلادها وتكونها، فلماذا لم يستمر دفقه في ترشيد وتوجيه هذه الحضارة التي كونها؟
قد تفتح هذه الأسئلة أمام النظر مسارات مغايرة في قراءة تكوين الحضارة الإسلامية وعوامل تخلفها الحالي. وقد وجدت بالفعل منظورات تنتهج مناهج مادية وسوسيولوجية في قراءة تاريخ الحضارة الإسلامية، لكنها عندما أتت إلى تعليل نشأتها فشلت في إقامة الصلة العلية بين شروط المجتمع العربي الجاهلي وانبثاق المجتمع الإسلامي. ومساحة هذا العمود الأسبوعي لا تسمح باستحضار تفاصيل هذه القراءات وبيان مآزقها. لكن حتى عندما نشير إليها ونستحضر تلك التساؤلات السابقة لا نراها كافية للاعتراض على الفكرة التي سطرناها سابقا؛ لأننا عندما نرجع مصدر هذه الحضارة إلى القرآن، فلا يعني هذا أن سطور الوحي القرآني تتحول من تلقاء نفسها إلى كيان مجتمعي متحضر. بل لا بد من إدخال عامل الفهم، ببعديه المنهجيين (منهج الفهم، ومنهج تطبيق الفهم). وهذا ما يمكن أن نستفيده من الحديث النبوي الذي رواه أبو موسى الأشعري؛ حيث يرتب الرسول، عليه الصلاة والسلام، ثلاثة مواقف في التعامل مع القرآن الكريم، فيقول: "إن مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منه طائفة قبلت فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكانت منها: أجادب أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها ناسا فشربوا فرعوا وسقوا وزرعوا وأسقوا. وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه الله عز وجل بما بعثني به ونفع به فَعَلِمَ وعَلَّم. ومثل من لا يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله عز وجل الذي أُرسلت به". يبين لنا هذا الحديث الشريف ثلاثة أبعاد مختلفة في التفاعل مع كتاب الله. وبذلك يؤكد أنه رغم وجود الوحي مسطورا أمام المتلقي، فإن ذلك لا يعني بالضرورة حصول أثره فيه وفي واقعه. حيث تختلف كيفيات التلقي بين العقلية الجدباء، والعقلية الحافظة، والعقلية المستنبطة المجددة.