الوهم والحقيقة في صعود الإسلام السياسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
فصل جديد في لعبة الأمم؟... الوهم والحقيقة في صعود الإسلام السياسي
القاهرة - سليمان عبدالمنعم
ثمة ارتياب متبادل بيننا وبين الغرب مبعثه ذكريات قديمة يبدو أن لا أحد من الطرفين يريد نسيانها. فالغرب لا ينسى أن المسلمين استطاعوا في سبعين سنة فقط أن يخرجوا من الجزيرة العربية ليسيطروا على ثلث الكرة الأرضية، بينما احتاج الغرب الأكثر تقدماً وقوة إلى ثلاثة قرون لكي يسيطر على أقل من هذه المساحة. أما المسلمون والعرب فيتذكرون بدورهم الحروب الصليبية والحقبة الاستعمارية الحديثة وكأنها حدثت في الأمس القريب. وقد أنتج هذا الارتياب المتبادل مناخاً من الجفاء الحضاري، وهو مناخ سبق خطاب صدام الحضارات وما زال مستمراً حتى اليوم. وكان طبيعياً في هذا المناخ أن تختلط الحقائق بالأوهام.
في قلب حالة الارتياب المتبادل ومقولات الصدام الحضاري بيننا وبين الغرب يكمن العامل الديني كحقيقة يصعب إخفاؤها. ففي إيران وتركيا ومصر ودول أخرى فرضت ظاهرة العودة إلى الدين نفسها وتجاوزت إطار الظواهر الفردية والروحانية لتشكل جزءاً من البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية لهذه المجتمعات. حدث هذا الصعود الديني في حقبة زمنية قصيرة، ففي إيران وبعد أن اعتقد كثيرون أن الشاه محمد رضا بهلوي في طريقه الى تأسيس دولة علمانية على الطريقة الغربية إذا بالثورة الإسلامية تندلع في العام 1979 لتتحول إيران في أيام من دولة علمانية إلى جمهورية إسلامية. وفي تركيا وبعدما استتب الأمر تماماً للعلمانية الأتاتوركية وتراكمت تقاليدها ومؤسساتها خلال سبعين سنة إذا بصحوة دينية تخترق الحياة الحزبية السياسية على يد نجم الدين أربكان في مرحلة أولى ثم على يد رجب طيب أردوغان ورفاقه في مرحلة ثانية، ليحقق هذا التيار الديني الحداثي نجاحاً لم يكن يخطر في بال أحد، فيستمر حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية في الحكم ثماني سنوات متواصلة حتى اليوم.
أما في مصر، فالعودة إلى الدين ظاهرة جليّة في الشارع المصري وأصبحت التيارات الإسلامية وفي مقدمها جماعة الإخوان المسلمين تمثل حقيقة اجتماعية وسياسية. صحيح أنها لم تصل أبداً إلى الحكم، لكن وجودها في الجامعات والنقابات والشارع المصري لم يعد خافياً. والظاهرة الدينية قائمة في كل المجتمعات العربية وإن بدرجات متفاوتة. ثم كان التطور الأكثر إثارة للانتباه لهذا الانبعاث الديني متمثلاً في حركتي "حزب الله" في لبنان و "حماس" في فلسطين، وهما حركتان تتبنيان نهجاً يتناقض بالضرورة مع الرؤية الغربية للصراع العربي - الإسرائيلي.
السؤال الآن: هل هناك ما يبرر حقاً مخاوف العقل السياسي والفكري في العالم الغربي من ظاهرة الصعود الإسلامي أم أن الأمر لا يعدو وهماً يتم تسويقه غربياً لتبرير طموحات استراتيجية وعسكرية؟ نحتاج الى تفسير منطقي وتاريخي واجتماعي لظاهرة الصعود الإسلامي ومدى اعتباره خطراً يهدد الحضارة الغربية.
(2)
التفسير المنطقي يوجب علينا أن نضع ظاهرة الصعود الإسلامي في إطارها الأكبر الذى يشمل صحوات وانبعاثات دينية أخرى تجتاح العالم على نحو متفاوت. ففي روسيا مثلاً وإسرائيل بل في أميركا نفسها هناك حركة عودة إلى الدين لا تخطئها العين. في روسيا تخلص المجتمع من العلمانية السوفياتية التي أحدثت قطيعة كاملة مع الدين خلال الحقبة الشيوعية ليستعيد ذاكرته الأرثوذكسية ويمارس طقوسها. ففي منتصف التسعينات وإثر تفكك الاتحاد السوفياتي أعلن ثلث الشبان الروس أنهم تحولوا من الالحاد الى الايمان، وتضاعف عدد الكنائس الأرثوذكسية في النصف الأول من التسعينات خمس مرات. وإسرائيل تمثل نموذجاً بارزاً لتنامي الظاهرة الدينية، فالحديث الدائر منذ سنوات حول دولة يهودية في فلسطين يختلف تماماً عن رؤية بن غوريون لإسرائيل كدولة علمانية ديموقراطية.
والعودة إلى الدين ظاهرة يمكن رصدها في المجتمع الأميركي نفسه. ومثلما نتحدث عن زيادة مبيعات الكتب الدينية في العالم العربي، فإن مبيعات الكتب المسيحية تضاعفت ثلاث مرات لتصل قيمتها إلى ثلاثة بلايين دولار أميركي كما يثبت هينتنغتون في كتابه الأخير "من نحن؟" حيث يذكر أن الروايات المسيحية هي الأكثر مبيعاً مثل سلسلة left behind التي بيع منها 17 مليون نسخة. ومنذ عشر سنوات كان هناك في أميركا أكثر من 1300 محطة إذاعة دينية و163 محطة تلفزيون دينية. بل إن ظاهرة التوظيف السياسي للدين بلغت في أميركا حداً بعيداً منذ عهد الرئيس رونالد ريغان وحتى عصر جورج بوش الإبن الذي حصل في انتخابات عام 2000 على 84 في المئة من أصوات الإنجيليين الذين يواظبون على الذهاب إلى الكنيسة. أما آل غور منافس جورج بوش الإبن في هذه الانتخابات فقد أعلن أمام حشد من الناخبين المتدينين عام 1999 أنه "إذا تم انتخابي، فإن أصوات المنظمات القائمة على الإيمان ستكون مكملة للسياسات التي تضعها إدارتي". هكذا تبدو العودة إلى الدين ظاهرة مشتركة تجتاح العالم بدرجات وأشكال متفاوتة. ولكي نفهم هذه الظاهرة لا بد من وضعها في إطار تطورها التاريخي لكي نعرف أسباب انبعاثها من جديد.
(3)
شهد العالم في القرون الماضية مراحل عدة تأرجحت فيها الظاهرة الدينية من الهيمنة إلى التراجع ثم الانبعاث مرة أخرى مع اختلاف في الظروف والمسببات ووجود قدر من التداخل بين هذه المراحل أحياناً. المرحلة الأولى هي مرحلة الهيمنة حيث عرفت البشرية التوظيف السياسي والسلطوي للدين من جهة والتوظيف الديني للسياسة والسلطة من جهة أخرى، وأفضى ذلك الى انتشار الحروب الدينية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم انتهت هذه المرحلة بمعاهدة وستفاليا التى كانت أولى محاولات احتواء الدين وتحجيم دوره السياسي.
المرحلة الثانية تمثلت في عصر التنوير الذي شهد تراجع الظاهرة الدينية وانتشار مفاهيم العقلانية والعلمانية، فأصبح العقل وليس الإيمان هو مرجعية تفسير الوجود وأساس تقويم السلوك الإنساني.
أما المرحلة الثالثة، فقد سادت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى سبعينات القرن العشرين، واتسمت بسطوع الأيديولوجيات السياسية وتراجع العقائد الدينية، وكان انحياز الشعوب إلى جاذبية أيديولوجيات كبرى مثل الشيوعية والفاشية والنازية والليبرالية والديموقراطية أكبر بكثير من انحيازهم الى عقيدة دينية. ثم شهدت المرحلة الرابعة في سبعينات القرن الماضي ظاهرة العودة إلى الدين مرة أخرى.
المفارقة الأكبر أن كل صحوة دينية كانت رداً على مأزق حضاري داخلي لكنها سعت الى تصدير أزمتها إلى الآخر!
لعلّ تفسير ظاهرة الصحوات الدينية في العالم يساهم في فهم فصل جديد في لعبة الأمم! فقد باتت الظاهرة مشتركة لدى الأديان جميعها تقريباً، لكن تفسير كل صحوة يختلف عن تفسير الأخرى. والمثير للدهشة أن هذا التفسير يختلف من عموم الناس إلى النخب الحاكمة، وهنا مكمن الخطورة! فالأفراد يعودون إلى الدين في الغرب في محاولة للحد من آثار التقدم الاقتصادي والتكنولوجي على التماسك الاجتماعي ومؤسسة الأسرة والقيم الأخلاقية. أما الصعود الإسلامي في العالم العرب-إسلامي فيبدو تعبيراً عن شعور بالإخفاق الحضاري في مواجهة العالم المتقدم. وعلى صعيد النخب الحاكمة فالغرب يقوم بتوظيف ظاهرة الصحوة الإسلامية في إطار نظرية اصطناع العدو لتبرير هيمنته وتسويق مخططاته الاستراتيجية ليقطع الطريق على الصين الآتية إلى المنطقة غداً أو بعد غد! والنخب الحاكمة في العالم العرب-إسلامي تقدم نفسها في ظل هذه الصحوة الإسلامية بوصفها البديل الآمن والأكثر براغماتية من تيارات أو جماعات أصولية تنذر بالفوضى وتهدد مصالح الغرب.
الصحوة الإسلامية جزء من مشهد أكبر للصحوات الدينية في العالم. ربما تبدو أكثر إثارة للانتباه بحكم وجودها الملحوظ في الشارع العرب-إسلامي وفي تفصيلات الحياة اليومية، والمؤكد أنها أشد راديكالية في الكثير من أشكالها مقارنة بغيرها من الصحوات الأخرى. فالأسباب التي أدت الى ظهورها تختلف عن تلك التي صنعت الصحوات الدينية الأخرى. العودة إلى الدين في أميركا خصوصاً والغرب على وجه العموم هي رد فعل على ظواهر الجريمة والمخدرات والإغراق في الفردية وتراجع التماسك الاجتماعي وضعف مؤسسة الأسرة وانتشار ظاهرة الإنجاب خارج إطار الزواج، وهي إفرازات الحداثة وتداعيات واقع التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الذي قطع فيه الغرب شوطاً بعيداً ومذهلاً.
أما العودة إلى الدين في المجتمعات الإسلامية فكانت لها أسبابها المختلفة، فقد استمدت هذه العودة مبررها من الشعور الجمعي لعموم المسلمين والعرب بالإخفاق الحضاري في مواجهة الغرب القوي والمتقدم. وتعمق هذا الشعور بالإخفاق بفعل شعور آخر بالضعف والمهانة في مواجهة إسرائيل، وهو شعور غائر في النفس العربية لم يسلم منه عموم الأفراد والنخب الحاكمة على حد سواء. من المفارقة إذاً أن الصحوة الدينية في الغرب بدت محاولة لتدارك سلبيات الحداثة على صعيد القيم الاجتماعية والأخلاقية بينما كانت الصحوة الإسلامية رد فعل للفشل في تحقيق هذه الحداثة ذاتها!
(4)
كان الغرب ولا يزال يجسد القوة العسكرية، والتقدم العلمي، والازدهار الاقتصادي، والتمدين السياسي، وهي المقومات نفسها التي يفتقدها بشدة العالم الإسلامي والعربي. هذا هو الشعور الذي لم يسلم منه أي مسلم أو عربي وطأت قدماه أرض الغرب منذ رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وحتى اليوم. أكثر من 150 عاماً والنخبة العربية والإسلامية تلوك السؤال ذاته: لماذا تخلفنا وتقدم الغرب؟ وخلال هذه الفترة لم ينجح المسلمون والعرب في محاكاة النموذج الغربي المتفوق والأخذ بأسباب تفوقه. فقد كانت أولوية العالم العرب-إسلامي في النصف الأول من القرن العشرين هي التخلص من الاستعمار الغربي، فإذا جاء النصف الثاني من هذا القرن تعلّق العرب بالمشروع القومي الناصري ووجدوا فيه أملاً لتحقيق الوحدة والتنمية والتقدم. لكن هزيمة حزيران (يونيو) 1967 مثّلت ضربة قاصمة للمشروع القومي العربي وسرعان ما تبدد الحلم بكامله. ولم تستطع التجارب العربية الأخرى التي تدثرت بالمشروع القومي أن تنجز شيئاً ملموساً على صعيد الاستقلال الوطني والتحديث، بل إن بعضها كما في حالة صدام حسين كان سبباً في سقوط مدوٍ للمشروع القومي وفتح الباب أمام التدخل الأجنبي في ديار العرب مرة أخرى. وبعد 80 عاماً من غزو القوات البريطانية للعراق في عشرينات القرن الماضي، عاد البريطانيون الى العراق مرة أخرى وكأن العرب وحدهم هم الذين لا يستفيدون من دروس التاريخ!
هكذا بدت العودة إلى الدين إعلاناً عن فشل المشروع القومي العربي في تحقيق الحد الأدنى من طموحات العرب السياسية والاقتصادية والتكنولوجية. ولم يكن غريباً أن يتحول كثير من الناصريين والقوميين في شبابهم إلى تبني أفكار وتصورات إسلامية وبعضهم انتمى إلى تنظيمات إسلامية. في الوقت ذاته كانت الأفكار والحركات الشيوعية والاشتراكية في العالم العرب-إسلامي تعيش حالة من الشك وفقد الثقة بفعل هزيمة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين. ربما كان الحلم الاشتراكي قد بدأ ذبوله قبل هذه الأحداث بسنوات. ومثلما تحول كثير من القوميين إلى إسلاميين حدث الشيء نفسه مع الكثير من الرفاق الاشتراكيين الذين لا بد من أنهم تحلوا بشجاعة كبيرة لكي ينتقلوا من اليسار الاشتراكي إلى التيار الإسلامي، وإن كان بعضهم في انتمائه الفكري الجديد قد أصبح على "يسار" هذا التيار!
وحين تبدد الحلمان القومي والاشتراكي على أرض العرب واستمر الشعور بالإخفاق الحضاري في مواجهة الغرب عموماً وإسرائيل على وجه الخصوص، جاءت ظواهر الفقر والبطالة بدورها لتعمّق من الأزمة... لكن الفقر والبطالة كانا أوسع وأعمق في تأثيرهما في الملايين من الناس.
كلها أسباب وعوامل تداخلت وتقاطعت مع بعضها بعضاً لتهيئ مناخاً من الفراغ الحضاري وشعوراً عميقاً بالإحباط فكانت العودة إلى الدين أشبه بالملاذ الذي لجأ إليه الكثيرون في العالم العرب-إسلامي. كان أمراً عادياً أن تسمع التساؤلات وسط طلاب الجامعات وفي صفوف بعض المثقفين: لماذا لا نجرّب الإسلام وقد فشلت النظريات الأخرى؟ كانت أصداء الصيحات تتردد في جامعة الإسكندرية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات: إسلامية إسلامية لا شيوعية ولا غربية!
سبب آخر يصعب تجاهله لتفسير المد الإسلامي هو أن العالم العربي لم يعرف منذ الاستقلال الوطني خلال أربعين أو خمسين عاماً آليات أو قنوات التعبير عن الرأي في بعض المجتمعات ولم يسمح لها بدور حقيقي في مجتمعات أخرى. كان خوف السلطة شديداً ومبالغاً فيه من ظهور تيارات سياسية أو فكرية معارضة حتى في أوساط طلاب الجامعات. وكانت النتيجة - المفارقة أن غياب هذه الأطر والقنوات الشرعية للتعبير عن الرأي أو تحجيم دورها قد حال دون انتشار الفكر المدني. في الوقت ذاته كانت التيارات الدينية تنتشر وتترعرع بقوة دفع ذاتي في المساجد والزوايا والمدن الجامعية والأحياء الفقيرة فلم تكن محتاجة إلى أطر شرعية أو أحزاب رسمية.
وكانت النتيجة أننا صحونا بعد خمسين عاماً لنكتشف - في الحالة المصرية - أن نصف شبابنا ينتمي إلى أو يتعاطف مع التيارات الدينية بينما النصف الآخر مشوّش بتأثير العولمة وهو يعاني أزمة عميقة في الانتماء. تقلصت إلى حد مقلق الشريحة الواعية من الشباب التي تجمع بين قيم الانتماء الوطني والانفتاح على العالم، وهي الشريحة التي مثّلت قلب الطبقة الوسطى في مصر حتى عقود قليلة مضت. وحين حاولنا تدارك الأمر، بدا الوقت متأخراً والواقع مأزوماً والساحة خالية. ربما يحتاج المجتمع المصري الى عقدين أو ثلاثة على الأقل لكي تنتج أحزابه وأطره الشرعية تياراً قوياً من الوعي والاستنارة في مواجهة ظاهرة المد الديني. إنها الفترة ذاتها التي حجب خلالها الأول وانتشر الثاني!!