ثلاثة سيناريوهات أمام السودان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عثمان ميرغني
مع اقتراب موعد استحقاق استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان، يتزايد الحديث والجدل حول مستقبل أكبر بلد عربي وأفريقي وعاشر أكبر بلد في العالم من حيث المساحة. وبينما يدور نقاش واسع داخل وخارج الطبقة السياسية في السودان، تراقب جهات ودول كثيرة تطورات الأوضاع، خصوصا أن ما سيحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة ستكون له انعكاسات واسعة في البلد وخارجه.
كثيرون يرون الصورة قاتمة ويتخوفون من تداعيات الأمور إذا تعرقل إجراء الاستفتاء أو إذا جرى في موعده من غير أن تكون الأمور العالقة قد حسمت. فهناك ملفات كبيرة وخطيرة لا تزال تنتظر الاتفاق بشأنها من ترسيم الحدود إلى تقاسم الثروات الطبيعية من نفطية إلى مائية، وهي قضايا يمكن أن يؤدي عدم التوصل إلى اتفاق بشأنها إلى إشعال الحرب الآن أو مستقبلا. وهناك بالطبع قضايا أخرى مثل مسألة الديون الخارجية التي يقول مسؤولون جنوبيون إنهم غير مسؤولين عنها ويعتبرونها ديون الشمال، إضافة إلى المسائل المتعلقة بالجنسية ومصير الجنوبيين في الشمال والشماليين في الجنوب.
الأمر اللافت أنه بعد مرور خمس سنوات على اتفاقية السلام التي حددت موعد الاستفتاء لا يزال هناك هذا الكم الكبير من المشكلات العالقة، بل إنه حتى إجراءات الاستفتاء لا تزال تنتظر الاتفاق حول بعض تفاصيلها بين المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال والحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب، إذ لم يتم تشكيل مفوضية الاستفتاء إلا قبل أسابيع قليلة. هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأطراف المعنية، خصوصا في الشمال، لم تكن تصدق أو لم تقتنع أصلا بأن البلد سيصل إلى حافة الانفصال مع اقتراب موعد الاستفتاء، بل إن الحكومة انشغلت بتأمين وضعها وتعزيز قبضتها على السلطة أكثر مما انشغلت بتأمين البلد وتقوية عوامل الوحدة. وهكذا ضاعت سنوات حاسمة في المماطلات والمماحكات السياسية، بينما تكاتفت عوامل إضعاف الوحدة وتسارعت خطوات الانفصال.
الجنوبيون من ناحيتهم لم يجلسوا متفرجين في انتظار "عطف" الشمال عليهم بوحدة جاذبة لم تتحقق منذ عام 1955، تاريخ أول تمرد في الجنوب، وحتى اليوم، بل إنه حتى في سنوات السلم بين أعوام 1972 و1983، ثم بين أعوام 2005 و2010، لم تتوفر الظروف التي تزيل إحساس المواطن الجنوبي بالغبن، وتحديدا الإحساس بالمواطنة الكاملة والمساواة التامة. لذلك ليس غريبا أن تسمع الكثير من الجنوبيين يتحدثون عن رفضهم العيش كمواطنين من الدرجة الثانية، ويرددون خلال المظاهرات التي تسير اليوم بشكل شبه منتظم في الجنوب دعما للانفصال هتافات مثل: "لا للاستعباد.. نعم للانفصال"، أو: "لا للكونفيدرالية.. نعم للاستقلال"، و: "وداعا للشمال".
هذه المشاعر لم تظهر فجأة ولم تنبت خلال السنوات الخمس الماضية، بل كانت نتيجة تراكمات طويلة تمتد إلى منتصف الخمسينات، لكنها ربما تأججت خلال العشرين عاما الماضية، خصوصا بعدما غذت الحكومة الحالية مشاعر العداء والانقسام بإعلان "الجهاد" وإرسال الشباب والميليشيات للقتال تحت راية بعد ديني للحرب. لقد ضاع الكثير من الفرص خلال نصف قرن من مسلسل الحروب والسلام المنقوص وأصبحت قضية الجنوب ورقة للمزايدات السياسية التي كانت نتيجتها التلاعب بمصير وطن.
إلى أين تتجه الأمور الآن؟
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة أمام السودان في المرحلة المقبلة. الوحدة، وهي وإن كانت محبذة إلا أنها مستبعدة، فالتمنيات شيء، والواقع شيء آخر. الانفصال هو السيناريو الثاني، وهو المرجح وفق كل المؤشرات والمعطيات الراهنة. ومن يقرأ ويتابع بدقة تصريحات كثير من المسؤولين أو كلام غالبية المثقفين الجنوبيين سيدرك أنهم ماضون في طريق الانفصال، كما أن هناك خطوات كثيرة نفذتها حكومة الجنوب تشير إلى الاستعداد لمرحلة الانفصال سواء بافتتاح عدد من مكاتب التمثيل والقنصليات في الخارج، أو بإنشاء مصرف مركزي وتغيير مناهج التعليم وتأسيس نواة قوات جوية وبحرية.
السيناريو الثالث هو الأسوأ بلا شك، فهو الحرب، التي إذا تجددت فسوف تكون أشرس من كل الجولات السابقة، وقد تنجح في تأجيل الانفصال فقط لكنها لن تمنعه. والأخطر من ذلك أنها قد تجر مناطق أخرى إلى دائرة القتال والانفصال. فحرب الجنوب شجعت على اندلاع حرب دارفور، وأسهمت في ظهور حركات مسلحة في الشرق وفي مناطق أخرى، وليس هناك ما يمنع أن تمتد الحرب إلى مناطق جديدة مستقبلا سواء على خطوط التماس بين الشمال والجنوب أو أبعد من ذلك. فالحروب الأهلية تضعف الجسد من الداخل وتفتح بوابات للتدخل من الخارج، والسودان يجاور تسع دول قد يتورط بعضها في نزاعاته مثلما حدث في السابق وسيحدث حتما مستقبلا.
الواقعيون يرون أن فرص تصويت الجنوبيين في الاستفتاء "لوحدة جاذبة" تعتبر ضئيلة للغاية، خصوصا أن جزرة الانفصال تتدلى أمامهم. وفي مواجهة هذا الحال فإن الأمل أن يتجنب السودان "طلاقا دمويا"، وأن يجد العقلاء في شماله وجنوبه طريقا يؤسس لعلاقة مستقبلية صحية، وذلك بتصفية الملفات العالقة اليوم، وترسيم الحدود وتقاسم الثروات باتفاقيات واضحة تودع لدى الجهات الدولية، قبل موعد الاستفتاء، وبذلك تتحقق الأجواء لعلاقة تكاملية مستقبلية بين دولتين (إذا صوت الجنوب للانفصال) يكون بينهما تعاون قائم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. فالوقت يمضي سريعا والمماطلات لن تحل المشكلات، بل تفاقمها.
التعليقات
مقلة حقا عاقلة
ابو الرجالة -كمقال واقعي وعاقل لقد عشت في السودان خمس سنوات اعمل في دنقلة وعبري والخرطوم ويؤسفي ان اقول ان الاخوة في الشمال فعلا ينظروا الي الجنوبي نفس نظرة باشا مجرد عبد لا قيمة له ولكن مقالتك الرائعة هذة تسطر اول عمل عقلاني لمستقبل معقول بين الشمال والجنوب علي اسس الاحترام المتبادل تحية الي الاستاذ المرغني رائع جدا