الحرب ضد شجرة جنوب لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بلال الحسن
تعامل اللبنانيون باهتمام كبير، مع الزيارة الثنائية التي قام بها الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حافظ الأسد إلى لبنان. أدركوا أن هدفها الكبير يسعى إلى إشاعة جو التفاهم والتهدئة، وإلى تجاوز اللبنانيين لما قد ينشأ من تداعيات ما يسمى بالقرار الظني للمحكمة الدولية التي تعالج قضية مقتل الرئيس الراحل رفيق الحريري. واستطاع الملك والرئيس أن ينجزا، عبر الرئيس ميشال سليمان، وعبر رئيس البرلمان نبيه بري، وعبر رئيس الوزراء سعد الحريري، مصالحة لبنانية غير مباشرة. ولكن المفاجأة كانت في الموقف الأميركي الذي بادر فورا إلى انتقاد الجيش اللبناني، لأنه قام بالدفاع عن وطنه ضد تحرشات الجيش الإسرائيلي. وظهر واضحا أن الولايات المتحدة ليست مرتاحة لمسعى المصالحة في لبنان، وأنها تشكل مع إسرائيل حلفا واحدا ضد هذه المصالحة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تقف فيها الإدارة الأميركية ضد مساعي مصالحة عربية تلعب السعودية دورا أساسيا فيها، فقبيل انفجار الوضع في غزة بين حركتي حماس وفتح، بادر الملك عبد الله إلى إنجاز مصالحة بينهما حملت اسم "اتفاق مكة"، ونتجت عن ذلك الاتفاق حكومة وحدة وطنية شملت الضفة الغربية وقطاع غزة، وأوقفت المواجهات المسلحة، ولكن واشنطن بادرت آنذاك فورا، ومعها إسرائيل، إلى إعلان رفض تلك المصالحة، وساعد ذلك الرفض في وصول الوضع إلى حالة الانفجار بعد فترة وجيزة، وهو ما لا يتمنى الجميع أن يحصل ثانية في لبنان.
وبسبب هذا المنهج الأميركي الذي يقف علنا (مع إسرائيل) ضد أي مصالحة عربية توفر أجواء التفاهم والهدوء، يمكن فهم تحرش الجيش الإسرائيلي الذي أدى إلى الاشتباك مع الجيش اللبناني. لقد تذكرت إسرائيل فجأة أن لها ثأرا مع شجرة في لبنان، تحركت مجموعة عسكرية لإزالتها، بينما تحرك الجيش اللبناني لحماية تلك الشجرة، ولحماية الأرض التي تقوم عليها. هذه الشجرة تقوم في مكانها منذ سنوات طويلة، وهي إذا كانت تحجب الرؤية عن عيون الجنود الإسرائيليين لكي لا يروا شيئا صغيرا يحدث خلفها، فقد كانت تفعل ذلك منذ سنوات طويلة، فلماذا لم يتحرك الجيش الإسرائيلي لشن الحرب عليها قبل شهر، أو قبل سنة؟ لماذا لم يفعل ذلك إلا بعد الوساطة السعودية - السورية؟
إن جو "التحرش" واضح جدا من خلال التوقيت، وهو تحرش عسكري قامت به إسرائيل، وتحرش سياسي بادرت إليه الإدارة الأميركية بعد ساعات.
إن الولايات المتحدة، وبهذين الموقفين ضد المصالحات العربية، تكرس سياسة غير منطقية بشكل دائم. فهي تدعو غالبا إلى الهدوء وإلى عدم توتير الأجواء، ثم تبادر بدبلوماسيتها، ومن خلال التحرشات الإسرائيلية، إلى التوتير ونسف أجواء الهدوء. وتحدث أوباما عن الاستراتيجية السياسية التي أعلنها من القاهرة، في خطابه الشهير الذي وجهه إلى العالم الإسلامي، منتقلا إلى تبنٍّ علني لسياسة جديدة لها عنوان واحد: دعم إسرائيل ضد العرب وضد الفلسطينيين. واللافت للنظر في الأمر هنا، أن واشنطن كانت تفعل ذلك دائما، ثم تبرر فعلتها بأنها تواجه المتطرفين والمتمردين على سياستها، ولكنها تفعل ذلك الآن ضد حلفائها. فلبنان ليس بلدا متطرفا، والرئاسة اللبنانية ليست معادية للولايات المتحدة، وهي توصف دائما بأنها صديقة لها. وكذلك الحال مع السلطة الفلسطينية التي تعلن واشنطن رضاها الدائم عنها وعن اعتدالها، ولكنها تقف ضدها أيضا حين يكون هناك موقف إسرائيلي، فتواجهها وتضغط عليها لكي ترضخ للمطالب الإسرائيلية، وهي تفعل ذلك حتى ضد القانون الدولي الذي تصنعه بنفسها، ثم ترفض الاستناد إليه لتسويق سياستها.
أبرز مثال على ذلك موقف الإدارة الأميركية من مطالب الرئيس محمود عباس التي طلبها من أجل أن يتلاءم مع السياسة الأميركية التي تطلب وتصر وتضغط عليه من أجل الانتقال مع إسرائيل من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة. لقد أعلنت الولايات المتحدة أنها مستعدة لتقديم ضمانات للطرف الفلسطيني، وبادر الرئيس الفلسطيني إلى صياغة ما يرى أنه ضمانات مناسبة، مأخوذة كلها من المواقف الأميركية والأوروبية المعلنة، ولكن "المنطق" يعمل في كل مكان إلا هنا. "المنطق" يعمل في كل قضية، ولكنه لا يعمل في القضايا التي تتعلق بإسرائيل.
ماذا طلب الرئيس محمود عباس؟
طلب أولا ضمانات ترد في سياق رسالة يوجهها الرئيس أوباما إلى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يوضح فيها أن المفاوضات المباشرة ستبحث إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، مع وقف الاستيطان، وكل هذا موقف أميركي معلن، ولكن أوباما رفض توضيحه في رسالة ضمانات، لأن إسرائيل لا تريد ذلك.
وطلب ثانيا وكبديل عن الطلب الأول، أن توجه اللجنة الرباعية الدولية هذه الرسالة إلى الطرفين بدلا من رسالة رئاسية أميركية. وتم أيضا رفض هذا الطلب.
وطلب محمود عباس ثالثا، وبعد رفض الطلب الأول والثاني، عقد لقاء ثلاثي أميركي - فلسطيني - إسرائيلي، للاتفاق على مرجعيات وأسس المفاوضات المباشرة، التي تضغط واشنطن من أجل البدء بها. وتم رفض هذا الطلب أيضا. وقال ديفيد هيل، مساعد المبعوث الأميركي ديفيد ميتشل، الذي أصبح رمزا للعجز عن الإنجاز في المهمات التي يكلف بها، قال: "إن الجانب الإسرائيلي يرفض لقاء لبحث المرجعيات، ويوافق فقط على لقاء فني لبحث موعد ومكان بدء المفاوضات المباشرة".
إن الولايات المتحدة، تعلن من خلال هذا الموقف، أنها ترفض مفاوضات تستند إلى القانون الدولي، وأنها ترفض مفاوضات تستند إلى المواقف التي تعلن هي تبنيها. وترفض مفاوضات ترعاها اللجنة الرباعية الدولية التي هي عضو أساسي فيها. ولا تقبل إلا مفاوضات حسب شروط إسرائيل ومطالبها، ثم يكون على الآخرين أن يقتنعوا بأن الولايات المتحدة دولة عظمى لا بد أن تكون مسموعة الكلمة، وأن الولايات المتحدة وسيط نزيه، وأن الولايات المتحدة تسعى إلى الهدوء والسلام والابتعاد عن العنف.
وبهذا، تمتد سياسة "التحرش" والتوتير والعمل ضد جهود التهدئة العربية، من "شجرة" لبنان التي تزعج إسرائيل، إلى الحليف الفلسطيني الذي يبذل المستحيل لإرضاء أميركا، ثم يجد أن أميركا غير معنية بهذا الإرضاء.
... ثم يتساءلون: لماذا يكره العالم أميركا؟