مسجد مانهاتن... قرار صائب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
دويل مكمانوس
الإمام فيصل عبد الرؤوف، الذي يريد إنشاء مركز ثقافي ومسجد على بعد مربعين سكنيين من موقع برجي مركز التجارة العالمي "جراوند زيرو"، أدان مراراً وتكراراً الإرهاب الإسلامي؛ كما أنه معروف بحث أفراد جاليته ليكونوا، حسب تعبيره، "أميركيين صالحين ومسلمين صالحين". إنه ليس حليفاً لأسامة بن لادن، بل خصم له. ومع ذلك، فقد كان من المتوقع أن يعترض بعض سكان نيويورك الذين فقدوا أحباء وأقارب لهم في هجمات الحادي عشر من سبتمبر على بناء مؤسسة إسلامية بالقرب من موقع مأساتهم. والواقع أنه يحق لهم أن يشعروا بما يشعرون به، وعلى مركز ثقافي يأمل في جسر الهوة بين المسلمين والمسيحيين واليهود أن يأخذ تلك المشاعر في عين الاعتبار. إلا أنه لا يحق لهم أن يجعلوا مشاعرهم أساساً لقرار حكومي تمييزي.
والواقع أن الجدال يتجاوز مسألة ما إن كان المسجد ينبغي أن يبنى قريباً جداً من "جراوند زيرو"؛ حيث ظهرت حركات تطالب بحرمان المسلمين من حق بناء دور العبادة في كل أرجاء البلاد - من ستايتن آيلند في نيويورك إلى مورفريزبورو في تينيسي، وكذلك تيميكولا في ولاية كاليفورنيا. (يذكر هنا أن تيميكولا تبعد عن "جرواند زيرو" بـ3873 كيلومترا). ويساعد هذه الحركات سياسيون بعيدون كل البعد عن نيويورك - من بينهم اثنان قد يترشحان لانتخابات 2012 الرئاسية - يستغلون هذه الفرصة ليصوروا أنفسهم على أنهم مدافعون عن الحضارة الغربية ضد الحركات الإسلامية المحاربة.
في البداية، خرجت حاكمة ألاسكا السابقة سارة بالين، التي وصفت مخطط المسجد في نيويورك بأنه "طعنة في القلب" وطالبت "المسلمين المسالمين" بأن يثبتوا حسن نواياهم عبر الاتفاق معها. وبعد ذلك، قال رئيس مجلس النواب السابق نيوت جينجريتش من ولاية جورجيا، والذي نجح في أن يجعل بالين تبدو كما لو كانت من المعتدلين، إن مسجد مانهاتن يمثل موطئ قدم وانتصاراً أولاً يعبد الطريق لمزيد من الانتصارات ضمن حرب أكثر خطورة بكثير حيث كتب يقول: "إن أميركا تشهد هجوماً إسلاموياً ثقافياً وسياسياً يروم تقويض حضارتنا وتدميرها".
كما حذر جينجريتش من أن الإسلاميين يريدون فرض حكم الشريعة على العالم برمته، بما في ذلك الولايات المتحدة. وكمثال على ذلك، أشار إلى محاكمة وقعت في 2009 في نيوجيرسي زعم فيها رجل مسلم متهم بضرب زوجته بأن ما قام به جائز في الشريعة الإسلامية. وعلى نحو مفاجئ، اقتنع قاضي محكمة ابتدائية بهذا الدفاع وقبله، ولكن محكمة استئناف قلبت الحكم لاحقا "هجوم ثقافي وسياسي؟". الواقع أن الأمر يبدو أكثر كمحاولة يائسة من قبل مدعى عليه وقرار غبي من قبل قاض في محكمة ابتدائية. ولئن كان ذلك أفضل مثال في جعبة جينجريتش، فإن الحضارة اليهودية- المسيحية ليس لديها ما تخشاه.
غير أنه من باب الاحتياط فقط، وافق برلمان ولاية أوكلاهوما على قرار هذا الخريف يوضح فيه أن الشريعة الإسلامية ليست سلطة قانونية معتمَدة في الولاية. وبالتالي، فبغض النظر عن المآل الذي قد تؤول إليه الحرب على الإرهاب، فإننا لن نفقد هذه الولاية.
إن الأمر الخاطئ والخطير هنا هو أن بعض السياسيين بدؤوا يحوِّلون معركتنا مع مجموعة صغيرة من المتطرفين المسلمين إلى ما يريدها بن لادن أن تصبح بالضبط، أي صداماً بين كل المسلمين والغرب. والحال أن ثمة حرباً أهلية تدور رحاها داخل الإسلام، وتجمع المحدثين، مثل عبد الرؤوف من نيويورك، والذي يريد تحقيق المصالحة بين حياة المسلم والتسامح الغربي؛ والمتشددين، مثل بن لادن، والذين يرفضون ذلك. والواقع أن جورج دبليو. بوش وباراك أوباما يختلفان حول كثير من المواضيع، ولكنهما يتفقان على أن أفضل طريقة للفوز في الحرب على الإرهاب هي إقناع المعتدلين المسلمين بأن هذه المصالحة ممكنة، ومساعدتهم على الانتصار على المتشددين. ولكن رسالة الأشخاص الذين لا يريدون السماح للمسلمين الأميركيين ببناء مساجدهم تبدو أشبه بالتالي: لا يهمنا إلى أي مدى أنتم معتدلون كما تقولون؛ وإذا كنتم مسلمين متدينين، فإننا نعتقد أنكم جزء من تنظيم سري يهدف إلى تدمير حضارتنا.
ولنعد الآن إلى نيويورك للحظة. فمنتقدو عبد الرؤوف الأقل حرصاً على الدقة يتهمونه، بدون دليل واضح، بـ"الارتباط" على نحو ما بالإرهابيين. ولكن، هل تتخيلون أن مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف. بي. آي" لن يكتشف ذلك لو كان الأمر صحيحاً حقاً؟ أما منتقدوه الأكثر حرصاً على الدقة، فيشيرون إلى اعتراضات سياسية أوسع: إنه لم يندد بـ"حماس" بشكل خاص؛ ودعم المحتجين الذين حاولوا كسر الحصار على قطاع غزة بحراً؛ وهو ليس من مؤيدي إسرائيل. ثم إليكم شكوى أخرى إضافية: إن عبد الرؤوف لم يكشف عن هوية كل الجهات والأشخاص المانحين.
الحقيقة أنه يصعب على المرء ألا يتفق مع هذه الملاحظة الأخيرة، إذ من منا لا يرغب في معرفة مصدر المال؟ ولكن حتى بخصوص هذه النقطة، هناك ازدواجية واضحة في المعايير لا تخطئها العين، وذلك لأن الكنائس والكنس غير مطالَبة بمقتضى القانون بالكشف عن هوية مانحيها. ثم إن جينجريتش نفسه لا يكشف عن مانحيه أيضا. (حول هذه النقطة وضَّح ريد تايلر، المتحدث باسم جينجريتش، قائلاً: "إن مانحينا يتوقعون ألا نقوم بالكشف عن أسمائهم... كما أننا لا نحمل على كاهلنا العبء الذي يحمله مسجد يموَّّّّّّل على الأرجح من قبل بلدان أجنبية").
وحرصاً مني على بحث المسألة على نحو نزيه وواقعي، تحدثتُ مع أحد سكان نيويورك الحكماء هو: الحاخام براد هرشفيلد، رئيس "المركز اليهودي الوطني للتعلم والزعامة". هرشفيلد يعرف عبد الرؤوف ويعتبره معتدلاً حقيقياً إذ يقول: "إن ترويج إشاعات بأنه عميل للإسلاميين مختلف تماماً عن كل ما أعرف عنه... ثم إنه من خلال مشروع (المركز الثقافي) هذا، يقترح (عبد الرؤوف) رداً روحياً على مشكلة روحية؛ لأن لما كانت (هجمات الحادي عشر من سبتمبر) إرهاباً ارتكبه إسلاميون، فإنه يحاول استعمال التراث لتصحيح ما حدث".
ولكن "هرشفيلد" يخشى أن تكون الأمور قد زاغت عن سكتها وأن تكون المرارة قد انتشرت على الجانبين، بدلًا من التفاهم بين الأديان الذي كان يأمل عبد الرؤوف في تحقيقه. وعلى أي حال، فإذا كان عبد الرؤوف يريد مركزه الثقافي أن يصبح وسيلة للمصالحة، فأمامه عمل كثير عليه القيام به؛ ولكن السؤال هو ما إن كان المهيِّجون الخارجيون مثل جينجريتش وبالين قد جعلوا ذلك أمرا مستحيلاً.
ويزعم المنتقدون بأن إنشاء مسجد في "51 بارك بليس" سيشكل انتصاراً للتطرف الإسلامي، والحال أنهم قلبوا الآية تماماً. ثم إنه إذا سُمح للمسلمين الأميركيين ببناء مساجد فقط في الأماكن، التي يتكرم المسيحيون واليهود بالموافقة عليها، فإننا سنكون في تلك الحالة قد أثبتنا صحة ما يزعمه الإسلاميون المتطرفين من أن الغرب هو عدو لكل المسلمين. وإذا مُنع بناء هذا المسجد بسبب الأفكار الجاهزة والمسبقة والديماغوجية السياسية، فتلك هي اللحظة التي سيدعي فيها بن لادن تحقيق نصر ثان - بالقرب من "جراوند زيرو"، كما يقولون.
--------
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"