لبنان والعروبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سلام الربضي
بادئ ذي بدء لا بد من التوقف عند علاقة الإسلام والمسيحية بالعروبة من خلال الأزمات التي يعانيها الفكر العربي. فالعروبة التي تعيش مرحلة البحث عن اليقظة، ووعي الذات، بعد قرون من الكبت والاغتراب، وتقف في وجه قرون من السيطرة، قاست خلالها الأمرّين من الاستعمار العثماني، ثم الأوروبي والآن الاستعمار الاقتصادي والتكنولوجي، بالإضافة إلى واقع سياسي لا يُخفي المصالح الإستراتيجية السياسية والحضارية التاريخية التي تحيط بنا من قبل كل من إيران وتركيا، بالإضافة إلى الخطر الإسرائيلي الوجودي، دون الحديث عن واقع دولي غني عن التعريف. فالعروبة تواجه عصراً، سقطت فيه الحواجز، واتصلت الشعوب بعضها ببعض، اتصالاً لا انفصال فيه، تتداخل فيه وسائل الإعلام البصرية والسمعية، المقروءة والمكتوبة حيث الثقافات ممزوجة ومتداخلة ومتواصلة. عصر يشهد ولادة ثقافة بشرية، مشتركة، لا هي مسيحية فحسب، ولا هي إسلامية فحسب، لا هي ماركسية فحسب، ولا هي ليبرالية فحسب، لا هي روحانية فحسب، ولا هي مادية فحسب، ولا هي تجريدية فحسب، ولا هي تكنولوجية فحسب. إنها ثقافة الإنسان وكل إنسان، ثقافة الإنسانية وكل الإنسانية، وكل محاولة للانفصال عن هذا التيار العالمي الجارف محاولة يائسة أو مضيعة للوقت وهدر للجهود.
ومن هذا المنطلق فالعرب لا يمكن أن يكونوا مسلمين فقط، ولا المسيحيون العرب يمكن أن يكونوا مسيحيين فقط. حيث إن الاستقلالات الوطنية ستصبح تقسيماً جغرافياً فحسب، وليس تقسيماً حضارياً بفوارق أساسية على الصعيد العربي.
ومن خلال مراقبة المشهد السياسي اللبناني، نجد أن العروبة هي من المصطلحات الأكثر رواجاً من قبل الكثير من السياسيين تارة للتبرير وتارة أخرى للتخوين، وأصبحت الحرب اللبنانية النموذج بالنسبة لهؤلاء السياسيين للاستشهاد بها عند الضرورة.
وإذا كانت هناك حسنات تذكر للحرب اللبنانية والأزمة اللبنانية الأخيرة، فهي أنها عرّت الوضع اللبناني ودفعت باللبنانيين نحو مواجهة مباشرة ومكشوفة مع الحقائق التاريخية والتي يحاول البعض والبعض الآخر أحيانا طمسها والتستر عليها وإخفائها تحت ألف ستار ودافع، وتارة أخرى تجد من يحاول الاستشهاد بها تحقيقاً لألف غرض ومصلحة وغاية. وجوهر هذا الواقع يمكن التعبير عنه بالسؤال الآتي: أين هي العروبة من انتماء لبنان الحضاري؟
لقد نتج عن هذه التفاعلات المتداخلة واقع مسيحي وإسلامي في لبنان ما زال حاضراً حتى يومنا هذا، أدى إلى فقدان الجاذبية القومية الشديدة والشبه مفقودة كي تربط المسيحي بباقي أبناء وطنه ومجتمعه. وما وقع فيه المسيحي اللبناني وقع فيه المسلم اللبناني أيضاً، وهكذا ضعفت الرابطة الوطنية لصالح الرابطة الدينية، وغلب الولاء الديني على الولاء الوطني بل وحل محله. وهذا الواقع ليس له مثيل في دنيا المسيحيين الأوروبيين، فالمسيحي الأوروبي مثلا لا يغلب ولاءه الديني على ولائه الوطني، ولقد رأينا كيف قامت كثير من الحروب بين شعوب تنتمي للمسيحية، وهذا الواقع ليس له مثيل أيضاً في دنيا المسلمين، بمن فيهم مسلمي العرب، فالخلافات بين الدول الإسلامية، أكثر من أن تحصى، بل هناك دول إسلامية تتحالف مع دول غير إسلامية، ضد دول إسلامية وبالتالي فإن الرابطة الدينية خارج لبنان قد تأتي بعد الرابطة القومية.
طرح القضايا الفكرية والحضارية وعلى مستوى إنساني أو سياسي وبأسلوب راقٍ هو تنوع وغنىً. ونحن العرب بأمس الحاجة إليه، ولكن هذا الطرح من أجل أن يكون سليماً وصحيحاً ويخدم المجتمعات المتنوعة والمفتوحة سواء على صعيد لبنان أو على صعيد الوطن العربي، لا بد أولاً أن يتم على صعيد لبنان من خلال أمرين:
أ - التخلي عن الحكم على العروبة بمقاييس هذه الدولة العربية أو تلك، والرجوع إلى جوهر العروبة الحضاري الذي لم يتجسد بصورة كاملة في أي دولة.
ب - رفض تقسيم الشعب اللبناني داخل لبنان إلى قسمين (مع أو ضد العروبة). ومن خلال هذه الملاحظة يبدو بأن لبنان أقل ابتعاداً عن العروبة من عدد كبير من الأقطار العربية.
ويمكن القول إن أكثر ما يُفقد العروبة بعدها الحضاري هو تلك المواقف الانتهازية والاتهامات المسلطة في وجه اللبنانيين على أنهم عملاء للخارج ومعادون للعروبة.
أما على صعيد الوطن العربي فكرة العروبة يمكن فهمها من خلال:
أ - أن الأمة المتمثلة بالعروبة لا يمكن أن تكون ثمرة إبداع فكري مجرد حيث تنزل من العقل البشري المبدع فتلتحق بالمجتمع، بل تظهر من واقع المجتمع وتظهر لعقل المراقب الواعي. فالعروبة ليست إذن عملية ذهنية بل واقعية، وتوضيحاً نقول: هل إن أحداً من رجال الدولة أو الفكر تمكن عبر الزمن من تركيب صورة عن أمة في ذهنه ومن ثم تطبيقها فيما بعد في المجتمع؟ ومن يحاول فعل ذلك يكون واهماً يصدمه الواقع ويفسد إبداعه فكيف بحال الانتهازيين؟ كما أن القضايا الحضارية لا تعالج بمرسوم ولا تلغى أو توضع موضع التنفيذ بانقلاب عسكري ولا حتى بثورة، فالقضايا الحضارية موضوع شائك ومعقد لما هي عليه من اتساع في المدى وتنوع المعطيات.
ب - العروبة هي جماعة لها وجود واقعي وتاريخي، وشخصية مجسدة، وبالتالي ليست مجرد فكرة مجردة جوهرية ماهوية، بل فكرة واقعية محددة ومجسدة بواقع الفكرة، وبالمظاهر الفعلية، لها شخصية قانونية، لغة مشتركة، أرض مشتركة، سلوك نفسي جمعي. والعروبة هي التعبير الفكري الذهني عن الواقع العيني للجماعة السياسية والأمة، فإذا كانت الأمة فكرة قومية لها مسوغاتها، فلأنها قبل أي اعتبار تعبّر عن واقع وجودي، عن كينونة الأمة في زمانية وواقعية الوجود التاريخي الاجتماعي. والجدل حول مفهوم العروبة، وحتى فكرة العروبة هو جزء لا يتجزأ من وجود العروبة. الأمة وجود وكيان وشخصية عيانية، والجدل حول مفهوم الأمة، لا يغير، ولا يبدل من حقيقة وجود الأمة المادي والروحي.
ج - يجب علينا مجابهة الفكر، الماهوي الجوهري، الصوري والذي لا يميز بين الأمة الوجودية وهي الوطن العربي الطبيعي بقومه وأرضه، وبين التعبيرات الفكرية الأيديولوجية الكلية عن وجود العروبة. وبالتالي يجب تحرير الفكر العربي من أسطورة الحتمية الوحدوية وأشكالها المختلفة، ومن المفهوم الوجودي القومي الواحد، الذي يفرز بوجوده الحتمية وأشكالها المختلفة، وتلك هي الخطوة الأولى على طريق محاربة عملية الانزلاق في الإقليمية والمحلية، كما يحدث الآن في كثير من البلاد العربية. كما أنه لا يمكن أن يقوم أي شكل من أشكال الوحدة العربية على أساس عاطفي، أو ديني أو عرقي، وهذا يعني خلق الإنسان العربي متحرراً من كل الرواسب والسلفيات، والعصبيات وحتى الخرافات والأساطير.
العروبة ببعدها الحضاري والإنساني لا يمكن أن تتحقق سوى بشرط أساسي وهو المواطنة والعلمنة وهذه عبرة من العبر التي يعلمنا إياها التاريخ أو الواقع الحاضر، ولا تترك أمامنا سوى سبيل واحد ألا وهو النظام العلماني أو المدني، نظام الحرية الدينية والكرامة الإنسانية، القائم على حياد السلطة وإعطاء الحرية الدينية للفرد، وإعطاء أصحاب الأديان حرية التملك اللازمة لممارسة أنشطتهم وحاجاتهم، وبالتالي فصل الدين عن الدولة، ففصل الدين عن السياسة ضرورة تعلمنا إياها التجارب، وهو حال التاريخ العربي. ولكن هل سنتعلم من الأيام أم نتركها تعلمنا وتتعلم بنا؟؟ وهل سنعتبر من التاريخ؟ أم نكون دائماً عبرة لمن يعتبر؟