جريدة الجرائد

تحقيقات «أسطول الحرية»: «حرب» داخل إسرائيل وتسوية مع تركيا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالوهاب بدرخان


بعد شهرين فقط على الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية"، اشتعل موسم التحقيقات، داخلياً ودولياً، كما لو أن اسرائيل تبنت فعلاً العدالة والقوانين منطلقاً ومؤدى. لكن، منذ البداية، أريد لهذه التحقيقات أن تكون ملتوية، مقننة، غير هادفة، أو لا تكون. مثل أي دولة أو جماعة أو حتى أفراد، وربما أكثر، في ما خص لزوم العلاقات العامة، ترغب إسرائيل في إضفاء ديكور "عدالة" على صورتها. لكنها تشترط أولاً ضمان أن تحميها القوانين من القوانين. فالحقيقة مطلوبة، على أن تبقى سرية، وألّا يترتب عنها أي محاسبة، ويخشى عتاة المرتكبين أي تحقيق لا يتولونه هم ليجتهدوا في توجيهه، ولا يتوانون عن التحارب بالتحقيقات وإخفاء الحقائق عندما تعوزهم الوسائل الأخرى في المراحل الحرجة والحائرة.

أعطت إسرائيل في الشرق الأوسط، على الدوام وطوال عقود، وبفضل الولايات المتحدة طبعاً، نموذجاً سيئاً صارخاً لانتهاكات وجرائم ظلت بلا محاسبة، أو طبقت فيها "العدالة الخاصة" التي لا تتردد في الاسترشاد بأبشع مفاهيم التمييز العنصري، فالقاتل الإسرائيلي يصونه القانون إزاء قتيله الفلسطيني. وعلى المستوى الدولي استطاعت إسرائيل، بمعونة الحلفاء الغربيين، بناء نموذجها كدولة مستثناة من العدالة والقوانين الدولية.

ما نشهده في الأعوام الأخيرة يبدو كأنه مؤشر تغيير، لكنه يبقى طفيفاً وخادعاً. قد يكون "النموذج" تعرض لاهتزازات، لا بسبب "عدالة دولية" مستعادة وإنما تحديداً لأن الممارسات الإسرائيلية تخطّت حدود المتصور. ففي التحقيق الدولي الذي أخضع الحرب على غزة (أواخر 2008 - أوائل 2009) للتدقيق، هبط "تقرير غولدستون" كما لو أنه من كوكب آخر ليفاجئ إسرائيل بأنها أخطأت إذ ظنت أن "السيستم" لن يخرق، وأن أي تحقيق لن يجرؤ على اتهامها أو إدانتها. لكنها أدركت لاحقاً أن الخطأ كان في عدم التعامل مع التحقيق، للتأثير فيه من داخله وبالتالي إبعاد الأضرار قبل حصولها. لم تنفعها غطرستها الواثقة المطمئنة، لكنها نالت من الولايات المتحدة، حامية استثنائها من القانون الدولي، كل الضمانات لقطع الطريق على أي خطوة إضافية نحو محاكمة حربها على غزة. ومع ذلك لم تستطع أن تتفادى كلياً التعاون ولو في شكل غير مباشر مع متطلبات "تقرير غولدستون"، إلا أنها حرصت على بلورة أطر تتيح لها التحكم أو التصدي لأية محاولات مقبلة لتفعيل هذا التقرير.

اختلف الأمر مع قضية الهجوم على "أسطول الحرية"، لأن الجريمة حصلت في المياه الدولية، ولأن الخصم لم يكن فلسطينياً أو عربياً. الخصم كان تركيا التي قتل تسعة نشطاء من مواطنيها، ثم إن حكومتها اتخذت موقفاً واضحاً وعلنياً ضد الحصار المفروض على غزة. كانت الطرق لمنع سفن المساعدات من بلوغ ميناء غزة، وبالتالي "كسر الحصار" مديدة، ومع ذلك اختيرت الطريقة التي تناسب الغطرسة العسكرية، فحصدت استعراضاً دموياً لا داعي له. ولوهلة، مضى الإسرائيليون في تحريض الحلفاء، من أميركيين وأوروبيين، الى حد المطالبة بـ "عزل" تركيا، أو على الأقل توبيخها وتهديدها بعواقب تحديها إسرائيل. ومع أن الحلفاء انتقدوا اتجاه تركيا شرقاً، إلا أنهم أقنعوا إسرائيل بأمرين: الأول، أنها ارتكبت عملاً يصعب الدفاع عنه وأن حصار غزة يحتاج الى مراجعة. والثاني، أن مسألة وجود تركيا في المعسكر الغربي تتجاوز عربداتها.

وبالتالي، فإن السبيل الوحيد إيجاد صيغ لرأب الصدع. أعيد إنعاش ملف انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وجرت بلورة تسوية سياسية للتحقيق الدولي فتشكلت لجنة محدودة التفويض بمشاركة تركية وإسرائيلية.

في الأثناء تفاعلت قضية الهجوم على "أسطول الحرية" وتداعياتها الدولية داخل حكومة بنيامين نتانياهو، ضاربة على كل أوتار الحساسيات والخلافات. وتحول التحقيق الداخلي الى حرب خفية وصامتة في أكثر من اتجاه، بين الطاقمين السياسي والعسكري، وبين السياسيين أنفسهم. خرج التحقيق العسكري بنتائج أبقت معالم تلك الحرب سرية، الى أن دفعها تحقيق "لجنة تيركل" الى العلن. لا مفاجأة في التحقيق العسكري، فالجنود نفذوا ما أقره المستوى السياسي، ولم تحصل أخطاء بل حصلت مقاومة غير متوقعة على متن سفينة واحدة. ولعل "حرب الجنرالات" استعرت على خلفية تقاذف الاتهامات في حمأة المداولات لاختيار رئيس جديد للأركان، وانكشف الخلاف حاداً وشخصياً بين وزير الدفاع إيهود باراك ورئيس الأركان غابي أشكينازي.

جاءت المفاجأة في بداية التحقيق السياسي، وللمرة الأولى سجل الوسط السياسي الإسرائيلي أن رئيساً للوزراء يتنصل علناً من المسؤولية ليلقيها على وزير الدفاع وبدرجة أقل على رئيس الأركان، حتى مع تأكيده أنهما تصرفا وفقاً للمصلحة. يعرف نتانياهو أن "لجنة تيركل" محدودة الصلاحية والفاعلية، لكنه شاء التحوّك واستباع أن يلقي الآخرون كل المسؤولية عليه. صحيح أنه رئيس لهذه الحكومة، لكنه يقود ائتلافاً انعدمت الثقة بين أطرافه ولا يتردد أي منهم في إغراق الآخر أو حرقه سياسياً.

لن يتاح لأعضاء "لجنة تيركل" الاستماع الى جنود شاركوا في الهجوم ولا الاطلاع على كل التحقيقات العسكرية بل على أجزاء منها. لذلك فهي مضطرة لحصر اهتمامها في تقييم القرار السياسي، وفي هذا المجال لن يسعها تجاوز إصرار نتانياهو وحكومته على أن الهجوم لم ينتهك القانون الدولي، وأن الجيش تصرف لمنع خرق الحصار المفروض على غزة لأسباب ودوافع "مشروع" أيضاً وتتعلق بالأمن.

لا بد أن التحقيقين الإسرائيليين الداخليين سيؤثران في شكل أو في آخر على التحقيق الدولي، الذي نالت إسرائيل ضمانات أميركية بأن الهدف منه إرضاء تركيا وإسكاتها لطي الصفحة من دون أن تكون هناك إدانة وتبعات على إسرائيل. وترجمة ذلك ان هذا التحقيق لن يتحول الى محاكمة للحصار ومطالبة برفعه، وإذا تطرق الى مسألة المياه الدولية وقوانينها فلن يتعدى اللوم والتحذير، لكنه قد يثبت مسؤولية إسرائيل عن مقتل الأتراك التسعة وضرورة تعويض ذويهم.

وهكذا فإن العدالة والقوانين والتحقيقات هي مسألة "مخارج" ترسم مسبقاً، خصوصاً متى تعلق الأمر برفع الضغوط على إسرائيل أو تخفيفها. مع ذلك، سيسجل لتركيا أنها جاءت بإسرائيل الى تحقيق دولي، بمعزل عما سينتج عنه، فهذه سابقة لن ينسى الإسرائيليون أنها أنهت عملياً مرحلة استثنائهم من المحاسبة. أما "المخارج" لتحدد ما هو ممكن في الحدود الراهنة للعدالة الدولية.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Turkey =Israel
Rizgar -

You can''t really compare Turkey to Israel on many different levels. For instance, Israel only attacked Gaza on behalf of defending their sovereignty even though I don''t approve of their approach. ...

Before not after
Narina -

We call on the Turkish government to release all Kurdish children held in Turkish jails without further delay under humanitarian law, before an international investigation into the flotilla raid, and before lecturing others in human rights. (FYI , about 4000 Kurdish children in primative Turkish prisons)