جريدة الجرائد

مسيرة الحمقى في أفغانستان

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

جاسوانت سينغ


عندما وصلت فضيحة ويكيليكس، بخصوص تسريب بيانات استخباراتية أميركية وتقارير من أفغانستان، إلى شاشات الكمبيوتر في مختلف أنحاء العالم، تفاعل المعلقون في باكستان بهجمات انتقادية لاذعة. فتحدث أحدهم عن "مصاصي الدماء من المحافظين الجدد... وكارهي الإسلام المتعطشين للدماء... ومراكز الأبحاث الاستعمارية... وأنصار استعادة الأرض (من الهنود)... والتخطيط لتقطيع أوصال بلد آخر حتى يتسنى لهم الاستمرار في إقامة وليمة الدم في أفغانستان". وإنها لكلمات قاسية، وخاصة إذا ما قورنت بكلمات وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، الذي شعر فقط "بالخزي" و"الصدمة" إزاء التسريبات.
لقد أثارت هذه التسريبات مناقشات محتدمة لأن الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد "الجهاد" اتخذت منعطفاً مفاجئاً نحو خصم غير متوقع: ألا وهو الحقيقة. بل لقد بات من الواضح الآن لأي مبصر أن غزو أفغانستان كان مبنياً على حسابات خاطئة إلى حد فاضح: وتتلخص في أن غزو أفغانستان قد يصادف النجاح.
بيد أن مثل هذه المحاولات كان مآلها الفشل دوماً على مر التاريخ. فقد ينجح محتلٌ ما في احتلال البلاد لفترة من الزمن، ولكنها فترة وجيزة ومؤقتة بكل تأكيد؛ فهذا البلد محصن ضد الفتح. واليوم أصبح إدراك هذه الحقيقة التاريخية، التي جلبتها فضيحة ويكيليكس إلى الديار، يقض مضاجع غزاة اليوم.
إن سوء التقدير الفاضح الذي أدى إلى غزو أفغانستان كان مستنداً إلى استجابة خاطئة في مواجهة هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. فمن بين هؤلاء الذين هاجموا الولايات المتحدة، عدد هائل من مواطني المملكة العربية السعودية، بمعاونة مواطنين باكستانيين. والأغرب من ذلك أن الولايات المتحدة في سعيها إلى الانتقام سارعت بعد غزو أفغانستان إلى الهجوم على العراق، ثم عمدت حتى قبل إنهاء هذه المهمة إلى تصعيد الحرب في أفغانستان بما أطلق عليه "تعزيز" القوة العسكرية هناك.
لذا، وبعد ما يقرب من عشرة أعوام منذ بدأت الحرب، عدنا إلى طرح سؤال أساسي: إلى أي هدف يتم توجيه هذا المسعى؟ إذا كان الأمر مرتبطاً بمكافحة الإرهاب، فما السبب وراء غياب القوات التابعة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي عن اليمن أو الصومال أو باكستان، وهي البلدان التي تحولت على نحو متزايد إلى ملاجئ آمنة للإرهابيين؟ أم أن الحرب في أفغانستان الآن تدور في واقع الأمر حول التصدي للمتمردين الذين يقاتلون حكومة حامد كرزاي؟
ما لم نجد أجوبة ذكية على مثل هذه التساؤلات فإن مصير هذه المغامرة أن ينظر إليها التاريخ بوصفها حماقة ناتجة عن خلط شديد. ولهذا السبب كانت فضيحة ويكيليكس بالغة التدمير، حيث تسببت الأسرار التي تكشفت في تقويض الأسس "الأخلاقية" التي قامت عليها الحرب والدوافع الغامضة التي تستخدم الآن لتبريرها. فبمهاجمة "الإرهاب" والانخراط في نفس الوقت في قتال "لمكافحة التمرد"، تكون قوات حلف شمال الأطلنطي تحت قيادة الولايات المتحدة في أفغانستان قد تحولت للأسف إلى ارتكاب نفس الجريمة التي تكافحها. والأسوأ من ذلك أن شعوراً بإحياء النزعة الاستعمارية أصبح أيضاً يشكل جزءاً من الصورة الكاملة، وليس فقط بين الأفغان. ولقد عمل هذا الشعور بالاحتلال الاستعماري على تحويل الحل المفترض لمشكلة الإرهاب في أفغانستان إلى مشكلة قائمة بذاتها.
وإن لم يكن هذا المزيج المشوش من الدوافع في أفغانستان سيئاً بما فيه الكفاية، فها هي ذي باكستان تضيف إلى الارتباك والحيرة. ففي غياب باكستان بوصفها شريكاً استراتيجياً لتوفير الأرض والموارد والدعم العسكري، تصبح العمليات في أفغانستان أكثر إحباطاً. ولكن من الواضح أن الدعم الباكستاني يتأتى بثمن باهظ. إن الولايات المتحدة "تشتري" حليفاً في باكستان يملي شروط تعاونه، ويعمل في الوقت عينه على حماية نفسه بإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع طالبان. بيد أن هذا يشكل في واقع الأمر تدبيراً تحوطياً مفهوماً من قبل باكستان، التي يتعين على حكومتها -مثل أي حكومة أخرى في المنطقة- أن تكون مستعدة ليوم انسحاب قوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي من أفغانستان.
إنه لأمر طيب بالطبع أن الولايات المتحدة لم تعد تعتقد في إمكانية تحويل أفغانستان إلى ديمقراطية مثالية على جبال الهندوكوش. ولكن لابد وأن يتبع ذلك تحفظ أساسي آخر أشد عمقاً، وذلك لأن أفغانستان في الحقيقة أقرب إلى مفهوم "كيان متعدد اللغات والجماعات العرقية المختلفة" من كونها دولة عاملة. صحيح أن الأفغان يعيشون نمطاً متحولاً من الولاء لكابول، ولكن هذه الوحدة كانت عرضية طيلة تاريخ أفغانستان الحديث، مع فترات متكررة من الانقسام. ولا تسود الوحدة والسلام في أفغانستان إلا في وجود "أمير" حاكم في كابول يتسم بالتفهم والتسامح والقوة. والعثور على مثل هذا الصنف من الزعامة الأفغانية يشكل التحدي الحقيقي اليوم. لذا فمن الأهمية بمكان أن نتقبل حقيقة مفادها أن أفغانستان دولة لا يمكن إخضاعها لحكم مركزي، بل يمكن توجيهها مركزياً فقط. وهنا يكمن السبب الأساسي وراء الإخفاقات العديدة للتحالف الغربي: افتقاره الواضح للفهم الحقيقي للجوهر الأفغاني.
أما عن العوامل المعقدة الأخرى، مثل دعم بعض من أجزاء المؤسسة العسكرية لطالبان وتنظيم القاعدة، فيتعين علينا أن نضع في الحسبان حقيقة تبلغ من العمر ثلاثة عقود من الزمان: ألا وهي أن حركة طالبان ولدت في ثمانينيات القرن العشرين بفضل التقاء المصالح الوطنية الأميركية والباكستانية. فضلاً عن ذلك فإن أي محاولة لطرد طالبان من منطقة وزيرستان تهدد بتمزيق أوصال باكستان.
فضلاً عن ذلك فإن باكستان، طبقاً لكلمات قائد الجيش الباكستاني الجنرال إشفاق كياني، تنظر إلى طالبان باعتبارها "أصلاً استراتيجيا" في صراعها ضد الهند. ويبدو أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي لم يفكرا حتى الآن فيما قد يكون مطلوباً لفصل أهداف السياسة الخارجية الباكستانية عن متطلبات التماسك الداخلي، حيث يشكل الغضب إزاء رغبة الهند في استعادة أراضيها الغِراء الذي يبقي على أطراف باكستان متلاحمة.
وباستهداف طالبان حولت الولايات المتحدة أنصار الحركة إلى "جيش" من المتمردين، وهي فكرة المقاومة التي بدأ السكان مرة أخرى في اعتبارها فكرة مقبولة. وبطبيعة الحال، يتألف تنظيم القاعدة من "أجانب" غير مرغوب فيهم، ولكن حين تهاجمهم قوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي، فإنهم يتوحدون جميعاً- وتدعم باكستان هذه الوحدة سرا.
والواقع أن هذه الديناميكية تشكل أمراً عرفناه نحن أهل جنوب آسيا وتعايشنا معه لعصور من الزمان. والآن عملت فضيحة ويكيليكس على توثيق هذه المعرفة التي اكتسبناها بشق الأنفس، ولكن في لغة يستطيع الأميركيون والأوروبيون العاديون أن يفهموها.
والآن تتلخص المهمة العاجلة التي تواجه الرئيس الأميركي باراك أوباما في تحريك الاستراتيجية الأميركية بعيداً عن الطريق المسدود الذي أصبحت عالقة عنده الآن والتوجه نحو طريق آخر كفيل بإيجاد التوازن بين المصالح الأميركية الوطنية، ومصالح الهند وباكستان والصين. لقد بدأت الآن لعبة النهاية البالغة التعقيد، وكلما طال بها الأمد كلما كانت النتيجة النهائية أشد تدميرا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف