هل ألغت الحداثة الغربية الدين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
السيد ولد أباه
من الأوهام السائدة في الفكر العربي الراهن أن الحداثة الغربية ألغت الدين وكرست الإلحاد وتنكرت للمقدس، إما باسم العلم أو اسم الأيديولوجيا أو العقل.
ورحم الله المفكر المصري الراحل "عبد الوهاب المسيري" الذي جذّر هذه الرؤية في سياق قراءته لعصور الحداثة الغربية من منظور تصوره للعلمانية الشاملة.
ماذا لو كانت هذه الصورة مغلوطة؟ نحتاج للتصحيح والتدقيق.
فإذا كان من الصحيح أن المؤسسة الدينية التقليدية قد تراجعت بل انهارت في أغلب البلدان الغربية، كما أن الدين لم يعد يحتكر منابع القيم، إلا أن الدين في أبعاده الوجودية والتأويلية وبنيته المعيارية العميقة، لا يزال مكين الحضور، قوي التأثير في الأرضية الفكرية الغربية. وبالرجوع إلى التصورات الفلسفية الرئيسية للدين في عصور الحداثة الغربية، نقف عند ثلاث عبارات نعتبر أنها تلخص النظرة الفلسفية الغربية للدين، على تباين واختلاف في سياقات ومرجعيات الاستشهادات المذكورة.
أما العبارة الأولى، فهي مقولة "ديكارت"في الجزء الرابع من كتابه المشهور "حديث الطريقة"، حيث يقول بصراحة ووضوح:
"إن الأشياء التي نتصورها بكثير من الوضوح والتميز كلها صحيحة لا تستقيم إلا لان الإله كائن أو موجود، ولأنه كامل، ولأن كل ما فينا آت منه. وينتج عن ذلك أن فكرنا أو مدلولاتنا ما دامت أشياء واقعية وما دامت آتية من الإله في كل ما لها من وضوح وتميز، فلا يمكن أن تكون إلا صحيحة".
ومصدر الغرابة والأهمية في هذه الجملة، هو أن المنهج الديكارتي المستمد من الرياضيات، هو الذي أسس النظرة التجريبية للطبيعة، وقوض الميتافيزيقا المدرسية الوسيطة، وحول الفلسفة إلى "علم السيطرة على الطبيعة".
ولقد أدرك "ديكارت" أن مقاربة التمثل التي يقوم عليها منهجه الفلسفي (ثنائية الذات العارفة والظاهرة المستحضرة في الوعي)، تتطلب ضمانة إلهية لمعيار اليقين الذي تدعيه، باعتبار الشرخ العميق القائم بين الفكر والطبيعة. فلا يمكن القول إذن إن الديكارتية كانت نزعة فلسفية إلحادية، ولا حتى في نسختها الأكثر راديكالية التي هي السبينوزية. فسبينوزا الذي بلور أول منهج نقدي تأويلي للنصوص الدينية ونبذته المؤسسة الدينية اليهودية، أراد أن يعيد بناء النسق اللاهوتي على أساس المنهج الهندسي الرياضي الدقيق بتنقية فكرة الإلوهية من شوائب النزعات التشبهية بالإنسان، حيث يتحول الرب إلى إنسان أعلى حاملًا لصفات بشرية متعالية، مما يكرس الوهم واستغلال الدين لأغراض نفعية تخدم الاستبداد والخضوع الأعمى. لقد انتبه "سبينوزا" إلى الحاجة الاجتماعية للطاعة، معتبراً أن العقد الاجتماعي لا يمكن أن يكون فاعلًا دون تحويله إلى عقد مقدس، بحيث يمتثل الناس طواعية للدولة المطلقة موقنين بأنهم يمتثلون لإلههم.
انه التصور نفسه الحاضر لدى "هوبز" و"كانط" و"روسو" و"هيجل"، الذين اتفقوا على ضرورة تدعيم عرضية وإجرائية العقد المدني بالحصانة الدينية، عبر توظيف معقد وواسع للقاموس اللاهوتي، الذي نفذ إلى أعماق الفكر السياسي الحديث، إلى حد أن الفيلسوف والقانوني الألماني "كارل شميت"، ذهب إلى القول إن كل المقولات السياسية الحديثة (السيادة، التمثيل ...)، هي مصطلحات لاهوتية تمت علمنتها.
أما العبارة الثانية، فهي مقولة "نيتشه" الشهيرة حول "موت الإله"، التي وردت في كتابيه "العلم المرح"، و"هكذا تكلم زراتوسترا". ولقد كتب الكثير حول هذه العبارة التي اعتبرت دليلًا على تطرف "نيتشه" الإلحادي، رغم أنه استخدم العبارة في صيغة إخبارية، مسجلًا أن العدمية الأوروبية، هي التي اغتالت الروح الدينية، بحيث أصبح الناس كلهم - بما فيهم المتدينون - ملحدين .
بيد أن القراءة المتمعنة لعبارة "نيتشه" في سياقها الدلالي، تبين أن ما نعاه "نيتشه"، هو التصور الميتافيزيقي اللاهوتي المسيحي للرب، الذي هو تصور يحوله إلى إنسان أعلى يحمل صفات بشرية ينعتها "نيتشه" بأخلاق الشفقة. ولقد اعتبر بعض الفلاسفة المسيحيين المعاصرين (مثل الايطالي جاني فاتيمو والفرنسيين بول فالادييه وجان ليك ماريون) أن مقولة "نيتشه" قد فتحت آفاقا جديدة للديانة المسيحية بحملها على التخلص من المقاربات الميتافيزيقية، التي قننت تصوراتها اللاهوتية منذ العصور الوسطى. فالذي انهار ليس الدين نفسه، وإنما الميتافيزيقا، التي كانت ديانة مزيفة تتقنع باللبوس الديني.
ومن هنا تحدث "فاتيمو" عن الإمكانات الخصبة، التي يدشنها المرور من "الأنطولوجيا القوية"، (أي النظرة النسقية الميتافيزيقية للوجود)، إلى "الأنطولوجيا الضعيفة"، التي تقوض مصادرة تناسب العقل والوجود، التي قامت عليها الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون إلى هيجل. في هذا الأفق، يتبادل "الإلحاد الدوغمائي" و"اللاهوت العقلي" المواقع، فأولاهما إنما ينفي وينكر تصورًا محدوداً وضيقاً للإلوهية، ولذا يحمل في طيه نزعة إيمانية قوية ترفض المس من الاكتمال الإلهي، وثانيهما ليس سوى نمط من الإلحاد الخفي باختزاله الكمال الإلهي في أصنام عقلية هي حصيلة تصورات جزئية محدودة للإله المطلق.
لقد تحدث "نيتشه" في بعض شذراته عن إله الحياة والفرح والقوة، مقابل التصورات المسيحية السائدة للإلوهية، مما فتح آفاقاً تأويلية جديدة لإعادة بناء اللاهوت المسيحي. ولذا اعتبر الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" أن "نيتشه"، هو الفيلسوف المسيحي الحقيقي، باعتبار هذا الحضور المركزي لشخص المسيح في فكره (قال إن المسيح هو المسيحي الوحيد على الأرض)، وباعتبار هذا الحرص على تخليص العقيدة المسيحية من شوائب الميتافيزيقا، التي هي بناءات عقلية يجري إخضاع المعتقدات الإيمانية لها. بقي الحديث عن عبارة الفيلسوف الألماني الشهير "مارتن هايدغر"، التي وردت في أحد نصوصه الأخيرة، الذي هو مقابلة صحفية مهمة، أطلق عليها عبارته الغامضة المثيرة "لا يمكن أن ينقذنا حالياً إلا اله". ولا شك أن الوقوف عند هذه العبارة التي كثر الحديث عنها ضروري لاستجلاء جانب محوري من التصورات الفلسفية الراهنة للدين، التي نادراً ما تنال الاهتمام المستحق في الكتابات العربية الرائجة. (للموضوع صلة).