«غازيو» القصيبي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله ناصر العتيبي
كنت أنوي أن أبدأ مقالي بالفعل الناقص "كان"، كنت أنوي أن أقول: "كان غازي القصيبي حالة وطنية استثنائية نادرة، لا تتكرر كثيراً"، لكني عدلت عن الكنكنة في القول، لسببين: أولهما، أن غازي القصيبي ليس من النوع الذي يتراجع إلى الماضي بمجرد موته، والثاني، هو أملي الكبير في أن يتبنى الشباب الصاعد شخصية الراحل، بحيث يصبح لدينا خلال العقود الثلاثة المقبلة عشرات الغازيين القصيبيين، وبالتالي يمتد حضور الحال القصيبية في حضرة الوطن إلى أجل غير مسمى.
ما قدمه القصيبي خلال عمره الذي توقف عند الـ "70" يعتبر بكل المقاييس ظاهرة استثنائية نادرة الحدوث، وما لاقاه بعد موته من تقدير وتبجيل واحترام واتفاق، يعكس حقيقته الدنيوية التي كان رمزها الوضوح، وعنوانها الصدق والصدقية، هل عدت للكنكنة من جديد؟! لا تثريب عليّ، فما أنا إلا بشرٌ بمواهب عادية، يصعب عليّ التعامل مع مثل هذه الحالات المستقبلية التي تُخالف قوانين الذكرى والتذكر.
لم تفقد السعودية بفقد القصيبي رجلاً واحداً، بل فقدت عشرات الرجال بعشرات المواهب؛ فقدت الوزير المخلص، وفقدت السفير المؤمن بقضايا وطنه وقضايا أمته، وفقدت المصلح الاجتماعي الذي كان يجاهد لتغيير وتنوير المجتمع، وفقدت الوطني الصادق الذي لم يكن يهمه حجم الخسارات ونوعها في سبيل الخروج بمجتمعه إلى حديقة النور والهواء الصحي، وفقدت الروائي الذي أبحر بالرواية العربية إلى جزر لم تكن قد زارتها من قبل، وفقدت الشاعر الرومانسي الصادق، وفقدت المفكر الذي "كان" يستشرف النتائج ويعيد رسمها في الواقع، ثم يعبد طرق الوصول إليها، وفقدت المترجم الحاذق الذي ينقل للعربية كتباً ثمينة يغفل عن نقلها المترجم التجاري.
في عام 1976 تولى القصيبي أولى حقائبه الوزارية، وكانت وزارة الصناعة والكهرباء، ويعلم الناس حينها كيف كانت حال الكهرباء قبل ولايته؟ وكيف صارت بعدها؟ ويعلمون أيضاً بمدى إخلاصه في عمله، وما القصص التي تروى عنه خلال هذه الفترة إلا شواهد لعمل رجل جاء ليترك أثراً، إحدى هذه القصص يرويها الراحل بنفسه في كتابه الشهير "حياة في الإدارة"، إذ يقول إنه خلال إحدى المرات التي انقطعت فيها الكهرباء عن عدد من أحياء الرياض، جاء على عجل إلى مقر شركة الكهرباء الرئيس، وعندما أتم اجتماعاته مع لجان الطوارئ، ذهب بنفسه إلى غرفة سنترال الهاتف في الشركة وطلب من الموظف المعني بالرد على تليفونات المواطنين أن يسمح له بالجلوس مكانه ليتواصل مع المواطنين المتذمرين من انقطاع الكهرباء عن بيوتهم، يقول غازي - رحمه الله - "إن أحدهم اتصل غاضباً وطلب منه أن ينقل رسالة صغيرة إلى وزير الكهرباء "الذي هو غازي نفسه" بأن يترك الشعر ونشر الشعر ويتفرغ لعمله في الوزارة، ظناً من المواطن أن الشعر هو الذي شغل الوزير عن الوزارة"، يضيف القصيبي في سرده لهذه القصة بأنه أبلغه بأن الوزير هو من يتحدث معه الآن، لكن المواطن لم يصدقه، وأقفل الخط متذمراً غاضباً.
عندما تولى وزارة الصحة في عام 1982 كان الجميع يعلم كيف كانت أحوال الطب والتطبيب في المملكة، وكيف صارت بعد تسلمه لوزارة الصحة بأمر ملكي مباشر من خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - خلال سنتين قصيرتين، نقل القصيبي الحال الطبية إلى مستويات متقدمة جداً جعلت من فترته في الوزارة إحدى أهم الفترات الذهبية التي مرت على القطاع الصحي في السعودية. كان رحمه الله (عدت للكنكنة من جديد) دائم الزيارات التفقدية للمستشفيات، ولطالما طالعتنا الصحف والمجلات في تلك الأيام بزياراته المفاجئة لأقسام الطوارئ وأقسام التنويم في المستشفيات الحكومية. يحكي، رحمه الله، في كتابه المهم جداً "حياة في الإدارة" قصته مع صديقه عمران العمران، الذي لم يكن معجباً بطريقة إدارة القصيبي لملفه الإعلامي، ولا بطريقة نشر أخباره وصوره في الصحف، خوفاً من أن يوغر ذلك صدر الحاسدين والحاقدين عليه ويجعلهم يشتغلون ضده في الخفاء، في الوقت الذي يعمل هو فيه في النور. يقول غازي: "إنه كان في زيارة لصديقه عمران في المنطقة الشرقية، الذي أخذ يلومه على المبالغة في إعطاء الأخبار والصور للصحف المحلية". يضيف غازي: إنه قال لصديقه إن كل هذه الأمور تأتي من غير ترتيب مسبق، لكن عمران لم يصدقه، وهنا طلب غازي من عمران أن يرافقه الآن إلى أحد المستشفيات القريبة ليتفقدها بصورة مفاجئة، خرج الصديقان إلى المستشفى وما هي إلاّ دقائق معدودة حتى انقض الصحافيون على الصديقين بفلاشات الكاميرات، وكأنهم كانوا على موعد مسبق مع الوزير! نجومية القصيبي هذه، التي كان عمران خائفاً من نتائجها في ذلك الوقت، جلبت له الكثير من المشكلات مع بعض المتنفذين الذين كانوا يرون أن في صعود أسهم القصيبي نزولاً لأسهمهم عند حكام هذه البلاد وولاة أمرها، والجميع يعرف قصة قصيدته المشهورة "رسالة من المتنبي إلى سيف الدولة" التي وجهها للملك فهد، رحمه الله، عندما لم يستطع أن يتحمل هجمات ومؤامرات حاسديه ومبغضيه.
غازي السفير أيضاً كان حالة استثنائية، فخلال وجوده كسفير لخادم الحرمين في البحرين والمملكة المتحدة كان (ولا يزال) واجهة سياسية عملاقة للمملكة، يدافع عن قضاياها ويتبنى حقوقها وحقوق مواطنيها ويتبع الحق العربي أينما كان وحيثما حل، وما عودته إلى المملكة على صهوة قصيدة "الشهيدة آيات الأخرس" وهو الذي تغرب عنها فوق صهوة قصيدة أيضاً، إلا تأكيد على أنه رجل وطني عروبي يؤمن أحياناً بأن الشعر هو الوسيلة المثلى للتعامل مع تعقيدات السياسة ودهاليزها!
غازي الروائي أيضاً كان له نصيب من كعكة نجومية "الشامل غازي"، فراويته المشهورة "شقة الحرية" كانت (ولا تزال، على رغم الكنكنة) فتحاً في عالم الرواية العربية. طريقته في السرد الناعم، وقدرته العظيمة في سبر أغوار شخصيات الرواية، وحذقه في ربط الأحداث بالشخوص والزمن، جعلت منه مدرسة روائية مستقلة تخرج فيها في ما بعد عشرات المبدعين الروائيين.
غازي الوطني، وغازي الشاعر، وغازي المصلح الاجتماعي، وغازي المفكر تحتاج لمقالات طويلة لا تكفي هذه المساحة لاحتواء نثارها وعبيرها. والمترجم غازي أيضاً يحتاج لمقال مستقل، لكن على من أراد أن يعرف كيف يفكر غازي في وطنه وهو يترجم ثقافات الآخرين، عليه أن يقرأ كتاب "المؤمن الصادق" الذي نقله غازي للعربية قبل أشهر قليلة. رحم الله "غازيي" القصيبي، وألهمنا وألهم أهلهم الصبر والسلوان.
التعليقات
رحم الله العملاق
algohara -لقد كفيت القليل من شخصية فقيد الوطن فمهما حاولنا فلن نوفيه حقه لا كانسان ولا مواطن شريف ولامسؤول فريد ولاوزير واعي ولا سفير وطني ولا شاعر مرهف ولااديب صادق الكلمه ولا في رحيله المفاجئ كان رحيل يصاحبه قوة وشموخ القصيبي رجل سبق زمانه
رحم الله العملاق
algohara -لقد كفيت القليل من شخصية فقيد الوطن فمهما حاولنا فلن نوفيه حقه لا كانسان ولا مواطن شريف ولامسؤول فريد ولاوزير واعي ولا سفير وطني ولا شاعر مرهف ولااديب صادق الكلمه ولا في رحيله المفاجئ كان رحيل يصاحبه قوة وشموخ القصيبي رجل سبق زمانه