أثر الإيديولوجيا السياسية على الفكر العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شمس الدين الكيلاني
خضع العرب منذ قرنين لزمن ثقافي اكتسب لوناً خاصاً، على الرغم من تقلب الزمن الاقتصادي والسياسي، تشابكت فيه أواصر علاقة العرب بالغرب، وصاحبه اكتشاف العرب لتقدم الغرب وسطوته ولمخاطر هذا التقدم والسطوة على بلادهم إذا لم يعيدوا ترتيب أوضاعهم بطريقة ملائمة.
وهكذا، وفي مواجهة هذه الإشكالية، طرح المثقفون العرب، على أنفسهم، سؤالاً، لايزال يتردد صداه إلى الآن، كثفوا فيه الإشكالية التي تواجه مصيرهم، وهو: لماذا تقدم الغرب، وتأخر العرب؟ وبالتالي ما هي الوسائل الناجعة لتقدمهم، وكيف تستطيع الجماعة العربية السيطرة على مصيرها مجدداً، لتصبح شريكاً منتجاً لحضارة اليوم، وليس مجرد مستهلك لأدواتها، ومقلد لمظاهرها؟. فشكَّل هذا السؤال المركزي قاعدة لأجوبة متباينة اصطفت على تخومها التيارات الثقافية العربية وتوضَّعت.
ولقد حافظت هذه التيارات الثلاثة (الإصلاحية الإسلامية، التيار القومي، التيار الليبرالي)، التي هيمنت على الساحة الثقافية في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر على خطوط وخيارات ثقافية متقاربة، رغم تباينها، طالما بقي الغرب خطراً خارجياً محتملاً، ولم يتحول إلى اجتياح استعماري بعد، فاتفق الجميع على ضرورة التجديد، والاقتباس من أوروبا، والحكم الدستوري، والتنظيم المؤسسي.
لكن بعد الاجتياح الاستعماري للأرض العربية، ومعه المشروع الصهيوني تباينت مواقف هذه التيارات وتصلَّبت، وزادت نزعتها العصبوية انغلاقاً أمام بروز الوجه الاستعماري العدواني للحداثة الأوروبية، على حساب الجانب العقلاني والإنسي من هذه الحداثة، فتصاعد تبعاً لذلك التأكيد على "المسألة الثقافية" والخوف على (الهوية)، والحذر من الاقتباس. فشهدت الثلاثينات ولادة الحركات السلفية التي أعلنت القطيعة مع ثقافة الغرب، والحذر من إسلام الجمهور، وبدأ القوميون التشديد على المزاوجة بين "الأصالة" و"المعاصرة" واستنفذوا طاقاتهم الفكرية لإثبات وجود "الأمة العربية" استناداً الى وحدة الثقافة (اللغة) و(التاريخ) في مواجهة التجزئة الاستعمارية لها، وعلى ضرورة الدولة القومية. أما التيار الليبرالي النافذ فتمركزت جهوده على الشأن القطري، وشارك في بناء (الدولة الحديثة) في ظل الانتداب ومابعده، مشدداً على الجانب الفردي والاقتصادي لليبرالية، وضحى بالديمقراطية كلما وجدها عثرة لاستقرار مصالحه. أما التيار الماركسي فذهب من القطري إلى العالمي من دون المرور بالقومي، واستعار (النقد الاشتراكي) للوجه الاستعماري للحداثة الغربية، مركزاً على فكرة "الطليعة" النخبوية التي ستقود الطبقة، التي لا تعي مصالحها لوحدها، إلى الاشتراكية.
ثم مع تفاقم المخاطر تضخم الطابع النخبوي للثقافة، وازداد معها التباعد والتصلُّب بين أطراف الثقافة الوطنية، وانقطاع لغة الحوار بينها، ومما ساعد على ذلك المخاطر الجدية للسيطرة الغربية، فاستنفذ المثقف العربي طاقاته المادية والمعنوية، في مواجهة تلك المخاطر، فتعسكرت حياتنا السياسية، وهيمن الهمُّ السياسي على ثقافتنا أمام شعور الجميع بخطر الاقتلاع.
بلغ الاستقطاب الإيديولوجي-السياسي للثقافة العربية ذروة تصلبه في المرحلة التقدمية، ولا سيما في طور احتباسها وانكشاف حدود إنجازاتها، أو أزمتها. فبدل أن ينظر كل طيف ثقافي إلى نفسه باعتباره جزءاً من ساحة ثقافية واحدة تتكامل مع الأطياف الأخرى في تكوينها، عبر تعايشها وتحاورها وتلاقحها، ويهيمن على علاقتها مناخ التكامل لا قانون الاحتراب، والاعتراف المتبادل بدل الإلغاء، وأن تبقى الجماعة (مصالحها وقيمها واختياراتها) المرجعية العليا ومصدراً للشرعية، ساد بدل ذلك قانون التحارب، الاستقطاب والإلغاء المتبادل، و نظر كل طرف إلى نفسه باعتباره مصدر الحقيقة، ومؤتمن على مصالح الجماعة (الأمة، الطبقة، جماعة المؤمنين)، لأنه يمثل "طليعتها"، ولا تقوم للجماعة قائمة إلا بإمساكه بمواقع القيادة! فتحولت الساحة الثقافية، ناهيك عن السياسية إلى حلبة للصراع.
وهكذا أصبحت الثقافة ثقافة نخبوية، وظيفتها الرئيسية في خدمة هذا الفريق أو ذاك في صراعه السياسي، وإن قاد ذلك إلى التضحية بالحقيقة وأختها الأخلاق. و(كفَّر) كل فريق-كلٌّ على طريقته- الجماعة، بعد أن كفَّر خصومه الآخرين، فهي إما "مفوتة الوعي" أو صاحبة "وعي عفوي" أو "جاهلية"! وبالتالي لم يعد هناك من حلول وسط، فإما أن تسلِّم الجماعة أمرها لأصحاب تلك الإيديولوجيا، فترتفع من مستوى جماعة بذاتها إلى جماعة لذاتها، أو تبقى مجرد جماعة غفل!.
والحال أن الخروج من الأزمة يقتضي تعميق الإنجازات، واكتشاف أجوبة حقيقية على مشاكلنا المعاصرة، والانخراط في العالم عبر الثقة بالذات،والانتقال أولاً من ثقافة الفتنة والتخاصم، إلى رحابة ثقافة الحوار المتعدد الأوجه. وإعادة الاعتبار لمرجعية الجماعة والشعب، واتخاذ الديمقراطية منهجاً لا يقتصر مفعولها على الساحة السياسية والمجال السياسي، كي لا تتحول إلى أداة للوصول للسلطة فحسب، بل يجب أن تمارس في كل مجالات الحياة، فالسلطة لا تقتصر على الدولة، فهي موجودة في كل مكان في الأسرة والمدرسة، والجامعة والحزب والنادي، وحتى في مجال الحقيقة، عنوانها الأول والأخير الاعتراف بالآخر والإصغاء إليه.