المثقفون العرب والخيار الإسلامي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
رضوان السيد
خلال الأسابيع القليلة الماضية انتقل إلى رحمة الله تعالى ثلاثة من المثقفين العرب وهم: نصر حامد أبوزيد وأحمد البغدادي وأخيراً قبل أيام: غازي القصيبي. ولكلٍ من هؤلاء -كما هو شأن المثقفين الكبار- أوجُهٌ متعددةٌ في شخصيته وفكره، تستحقُّ البحث والتأمل، وإنما المشترك بينهم أنه كانت لهم وقائع وخصومات مع الإسلاميين، إمَّا بشكل شامل أو مع ما صار يُعرف على وجه الخصوص بالإسلام السياسي. والواقع أن مسألة الخصومة بين مثقَّفي الحداثة والإسلام بمختلف أشكاله قديماً وحديثاً، ما عادت مسألة فردية، بل هي ظاهرة بدأت بطه حسين، وتشمل منذ الخمسينيات من القرن الماضي، الغالبية بين المثقفين العرب البارزين. وقد كانت لهذه الخصومة آثارها وعواقبها لعدة جهات: نشوب صراع بل حرب طويلة الأمد بين مثقفي الحداثة وإسلاميي التقليد والإحياء على حدٍ سواء - وتهميش الثقافة الحديثة والراقية في وعي الجمهور نتيجة انحياز الجمهور للإسلاميين - وانتشار الراديكاليات الفكرية بين الطرفين بحيث ساد الطابع الجدالي غير المعرفي- وانصراف الأنظمة وجماهير الشباب عن الهاجس الفكري إلى الوضع التقني والأداتي هرباً من الصراع الأيديولوجي أو تخلصاً من الفريقين. فهل لهذا أسبابه في اختلاف الرؤى والمشروعات، أم أنه مجرد صراع فات أوانه ومعناه على السلطتين المعرفية والسياسية؟!
لا يختلف الطرفان في الأبعاد العالمية لمسألتي الأمة والدولة، فالعرب في نظر الطرفين -قبل عقود- هم أمَّةٌ لها مشروعها ذو المضمون العربي والإسلامي، وبه تُقابل العالم وتعيش فيه. وفي زمن الإصلاحية الإسلامية، في مطلع هذا القرن، عندما كان مثقفو الحداثة والإنتلجنسيا في مرحلة النشوء، كان هناك تلاقٍ كبيرٌ على هذه المسألة باستثناءات قليلة. لكن ظهور النزعة المدنية العلمانية الراديكالية من جهة، والإحيائية الإسلامية من جهة ثانية، غيَّر من رؤية الطرفين للعلاقة بالعالم. فقد ظل المثقف الإنتلجنسي حتى عندما صار يسارياً يستلهم أحد الغربيين: الشيوعي أو الليبرالي، بينما طوّر الإحيائي الإسلامية رؤية في التغرب والغزو الثقافي تتعلَّقُ بالهوية وطهوريتها والأصالة ومقتضياتها. ومنذ ذلك الحين (الستينيات من القرن الماضي)، ما أمكن الخروج من الثنائيات التي ترتبت على هذا الانقسام في رؤية العالم: أمة/شعب، وقومية/دين، وعروبة/إسلام، وأصالة/مُعاصرة.
وما عاد يمكن اليوم إيضاح نقطة البداية بدون تشكُّك: فهل كان اختلاف الرؤى إلى العلاقة بالعالم هو العِلَّة في الانقسام والصراع الداخلي، أم أن الأمر جرى من الداخل إلى الخارج، فنحن نعرف أن الصراع على مستوى المثقفين والنُّخب بدأ في العشرينيات على الخلافة، أي على النظام السياسي الإسلامي التاريخي. وكان ذلك الملف هو الإشارة الأولى إلى متغيَّرات الوعي في المسألة السياسية. إذ ماذا كان يفكر أوائلُ الإحيائيين في مسألة الدولة، هل كانوا حقاً يعتبرون الخلافة جزءاً من الدين، ويريدون بالتالي استعادتها؟! أم أنهم كانوا فقط غير راضين عن نظام الدولة الوطنية (الذي اعتبره رشيد رضا قائماً على العصبية الجنسية- أي القومية أو العرقية)؟
أما علي عبدالرزاق في كتابه: الإسلام وأصول الحكم (1952)، فما قال أكثر من أن الإسلام كدين لا يملك نظاماً سياسياً، أي أنه لا يقول بالدولة الدينية أو الثيوقراطية. ويبدو ذلك واضحاً في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وفي أعمال المتكلمين والفقهاء الذين أصرَّوا عبر العصور على أن الشأن العام (= الإمامة) ليس أمراً تعبدياً بل هو من المصالح والأعمال التدبيرية غير الاعتقادية. وعلى أيّ حال، فإن الصراع حول الرؤيتين: الدولة القومية أو الدولة الدينية، سرعان ما انتقل من أيدي المدنيين، إلى معارك أمنية وسياسية بين أنظمة الضباط القوميين، ورجالات الإسلام السياسي والدولة العقائدية والحاكمية. والطريف أن الفكر القومي التقليدي واليساري على حدٍ سواء اعتبر مسألة الدولة والنظام أمراً عقائدياً أيضاً. وعندما تدخَّل المثقفون القوميون واليساريون للدفاع عن الأنظمة، ما كان همُّهم نُصرة مدنية الدولة، بل نُصرة الفئة الصغيرة الحاكمة بحجة تقدميتها.
وتأخر الأمر إلى ما بعد قيام الثورة الإيرانية، حتى تنبَّه المثقفون (الذين كان بعضهم يغادر القومية و"اليسار" إلى الإسلام، ويغادرهما البعض الآخر إلى الليبرالية والديمقراطية) إلى أهمية مواجهة "الإسلام السياسي" في السياسة والاجتماع، وليس في العقائد، فشاع الجدال في مدنية الدولة أو إسلاميتها، وفي موضوعات الحديات الاجتماعية وأوضاع المرأة والمؤسسات القضائية. وبدا على مستوى العمل والواقع أن لقاءً في منتصف الطريق يمكن أن يحدث بين الطرفين. فقد دعا مركز دراسات الوحدة العربية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي إلى قيام "كتلة تاريخية" قوامها القوميون والإسلاميون. لكن التسعينيات وما بعدها حفلت بالحروب وأسباب الفتنة والتشرذُم. واتجه الإسلاميون للاستيلاء على المجتمع وثقافته أو نبضه ومشاعره، بينما وجد المثقفون الليبراليون أنفُسَهُم يخوضون في موضوعات عقائدية وتاريخية ورمزية، تمسُّ مسائل الهوية الدينية للجماعة، ويَدَعون الساحة السياسية الداخلية، والعلاقات الدولية، لكي يُصارع عليها الإسلاميون كلاً من الأنظمة والأطراف الدولية. لماذا حدث ذلك؟ هناك عدة أسباب: ضيق الساحة السياسية أو انسدادها بحيث غاب النموذج المدني الذي يمكن الدفاع عنه - والراديكالية التي سيطرت على الساحات من كافة الأطراف، بحيث ظهرت ومرة واحدة أطروحات صراع الحضارات وغزوات الحرب على الإرهاب، والسلفية الجهادية، والراديكالية الدهرية التي تريد تكسير الإسلام إمّا لانغلاقه، أو للعنف المتأصِّل فيه.
لقد كانت صراعات العقدين الماضيين في الداخل العربي والإسلامي، صراعات عبثية ومؤلمة، إذ ما كان أحد مستعداً للإصغاء للآخر مهما بلغ تواضعُ مطالبه. وقد جرى دائماً تعمُّد الراديكالية والإسلامية والشخصنة. ويرى بعض المراقبين أن ذلك حصل لأن "الخيار الإسلامي" تبلور في سائر المجالات، فما عادت هناك إمكانية كبيرة لتنازلات، في حين وجد المثقف الإنتلجنسي نفسه عالقاً بين الأنظمة والإسلاميين، فقرر الخروج عليهما بطرائق راديكالية. وقد يكون ذلك كله أو بعضه صحيحاً، إنما الصراعات التي نتحدث عنها كانت صراعات رمزية أو بديلة، وقليلاً ما كانت لها عناوين سياسية مباشرة. وهي إن دلَّت على شيء، فهي تدلُّ على الحيرة والضياع، أكثر مما تدل على تبلور الخيارات وحسمها. فيبقى أن نتأمَّل هذا المخاضَ الكبير والمؤْسي بعد أن شارف حطبُ الأتُون على التحول إلى رماد. ولا أدري إن كان ما سأختم به مضحكاً أم محزناً. فقد كان علماء الكلام (= اللاهوت) المسلمون يتجادلون في خلق الجنة والنار وخلودهما. وكان هناك من رأى أنّ الجنة والنار تفنيان أيضاً، لقوله تعالى: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام). لم نعد في خضمّ الصراعات الأيديولوجية أو العقائدية، فقد صارت كل من الجنة والنار وراءنا، ونحن اليوم في حالة من انعدام الوزن، لا نعرف عن طبعتها ومآلاتها الشيء الكثير!