كان عبد الناصر علمانيا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الحليم قنديل
حين أصبحت المسيحية ديناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية، تجاورت سلطتان إحداهما دينية يترأسها البابا والأخرى مدنية يترأسها الإمبراطور، وبدأ ميزان القوة يختل في إطراد لصالح سلطة البابوات منذ القرن الخامس الميلادي وحتى القرن السادس عشر، بدأ التحول بالبابا اجيلاسيوس الأول الذي قال مذكرا للإمبراطور 'تعلم أن ثمة سلطتين تحكمان العالم: السلطة الدينية والسلطة الزمنية، وأن السلطة الدينية تتحمل المسؤولية الأكبر لأنها تعنى بالأصل وهو روح الإنسان، ومن ثم فإن القانون الإلهي أسمى من أي أمر أو قرار يصدره الإنسان'، وسندت الكنيسة رأيها بأن الحكم لله وحده، وبـ'نظرية الحق الإلهي' التي ساقها القديس توما الإكويني، وهكذا أصبح ما لقيصر وما لله في يد الكنيسة وحدها التي تحولت إلى سلطة مطلقة، وتحول رجال الدين إلى قوة تفعل ما تريد بدعوى أنها أوامر الله، كانت لهم جيوشهم وإقطاعياتهم المنتزعة من المؤمنين مقابل الخدمات 'الروحية'، بل وامتلكوا الممالك ذاتها، ثم ردوها إلى الملوك في صورة إقطاعيات مقابل إتاوات باهظة .
وكان طبيعيا أن تكون هذه الثيوقراطية الجامحة موضعا لمعارضة أوروبا عصر النهضة، عارضها رجال الإصلاح الديني، ودعوا للعودة إلى الأصل اللاهوتي، وهو الفصل بين الدين والدولة، وعارضها فلاسفة حركة التنوير وكان أغلبهم ماديا ملحدا لثقتهم المفرطة في مقدرة العقل على إدراك الحقيقة، واستمرت المعركة الشرسة على مدى قرنين من الزمان، ثم جاءت الثورات البورجوازية، ووضعت النهاية لقصة سيطرة رجال الدين .
إذن، فالعلمانية فكرة وتاريخا جزء لا يتجزأ من السياق الأوروبي، والنقاش حولها في بلادنا لا معنى له، إنها معركة حدثت هناك، وما من معنى لنقلها هنا، إلا إذا كان المجترون للعلمانية يريدون خلعنا من تاريخنا وحاضرنا ووضعنا في الغرب الحديث والمعاصر، أو كان المعارضون لها باسم الدين يريدون خلعنا من تاريخنا وحاضرنا ووضعنا في أوروبا العصور الوسطى، فليس في الإسلام رجال دين ذوو سلطة بل علماء ومثقفون، وليس في الإسلام سلطة دينية، سلطة الإسلام مدنية تحكم بالشرع والعقل، والموقف الإسلامي الصحيح هو التمييز لا الفصل بين معنى الدين ومعنى الدولة، ومن ثم فلا معنى للدولة الدينية أو العلمانية في مجتمع يدين غالبيته بالإسلام ويعتبره الجميع ثقافتهم وحضارتهم . ونصل إلى السؤال: هل كان عبد الناصر علمانيا؟ وهل شهدت تجربة الدولة الناصرية فصلا بين الدين والدولة؟ في النص، لم يتنكر عبد الناصر للإسلام، ولم ينكر دوره الاجتماعي الدنيوي، يقول عبد الناصر سنة 1963 : 'الإسلام دين التطور والحياة، والإسلام يمثل الدين ويمثل الدنيا، لا يمثل الدين فقط'، قبلها نقرأ في المذكرة الإيضاحية لقانون تطوير الأزهر، وكان واحدا من أعظم قرارات عبد الناصر، نقرأ نصا ذا دلالة بليغة يقول: 'الإسلام في حقيقته لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا، والإسلام يفرض على كل مسلم أن يأخذ بنصيبه من الدين والدنيا وكل مسلم يجب أن يكون رجل دين ورجل دنيا'.
لم يكن عبد الناصر علمانيا 'يروحن' الدين ويهمش دوره الاجتماعي والسياسي أو يلغيه، ولم يكن الدين غائبا في الخطاب الناصري، فقد تحدث عبد الناصر مرارا عن التفسير الرجعي للإسلام، وأبرز هويته كدين ثوري، وأدرك دوره كعنصر أصيل في التعبئة السياسية ودفع الأزمات الكبرى، واستوعب ارتباط منطقتنا بالإسلام، يقول عبد الناصر: 'طول عمر هذه المنطقة وهي تدافع عن الدين، ولم تمكن أي خارج عن الدين من أن يكون صاحب سلطة فيها'. وفي الممارسة كانت الصورة أوضح وأقوى من أي تشويه . في الأزهر، حدث أكبر تطور نوعي في تاريخه، وصدر قانون إعادة تنظيم الأزهر سنة 1961، ووصف القانون الأزهر بأنه 'الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث العلمي والفكري للأمة العربية وإظهار أثر العرب في تطور الإنسانية وتقدمها'، واستهدف القانون ربط الأزهر بالثورة الاجتماعية وتأكيد معاني التداخل بين الدين والدنيا، ونجح في تطوير مناهج التعليم الأزهري بحيث تقدم دعاة ملمين بعلوم العصر إلى جوار علوم الدين .
وتم إنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، بعد أن ظهر تعثر تجربة سابقة حملت اسم 'المؤتمر الإسلامي' عام 1954، ونجحت تجربة المجلس الأعلى نجاحا باهرا، وامتد نشاطها إلى جميع أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، واستهدفت التعريف بالإسلام وإحياء التراث الإسلامي وإعداد بعثات الوعظ والإرشاد وإنشاء ودعم شبكة واسعة من المراكز الإسلامية في جهات الدنيا كلها.
وأهمية مثالي تطوير الأزهر ومجلس الشؤون الإسلامية بالذات، أنهما عملان أنشأهما ورعاهما مركز الدولة الموصوف بالعلمانية، وربما يرى البعض أن تطوير الأزهر استهدف إلحاقه بالدولة، ونرد بأن تطوير الأزهر كان بالأساس توسيعا لنطاق وظيفته المجتمعية، وأن قادة الجامعة الدينية الرائدة على عهد عبد الناصر لم يكونوا رجالا ضعافا، فقد ظل الشيخ محمود شلتوت إماما للأزهر في أزهى سنوات المرحلة الناصرية، والشيخ شلتوت هو أعظم مجدد ديني في تاريخ الأزهر منذ رحيل الإمام محمد عبده، أما المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية فقد احتل منصب سكرتاريته رجال من نوعية الشيخ محمد الغزالي الفقيه المجدد وأحد قادة تنظيم الإخوان في السابق، ثم إن السلطة في الإسلام سلطة مدنية لا يصح أن تخلق في مواجهتها سلطة رجال دين، وفتاوى رجال الأزهر والشؤون الإسلامية كانت في أغلبها مع التغيير الاجتماعي وضد الصهيونية، ولا يجوز عليها وصف فتاوى السلطان، أو أنها صدرت بأمر عبد الناصر مع مخالفتها لصحيح الدين !
بقيت نقطة مهمة لها صلة بقضية العلمانية وبقضية الناصرية أيضا، انها تخص حق المواطنة، والناصرية بانطلاقها من المبدأ القومي، تؤكد المساواة التامة بين العرب جميعا مسلمين ومسيحيين وغيرهم في الحقوق والواجبات، والفقه الإسلامي الصحيح المتفاعل مع المتغيرات يسند المساواة، أما أغلب جماعات 'الاسلام السياسي' فترفض المساواة وتطلب عقد الذمة ودفع الجزية، وتحول غير المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية أو ما هو أدنى.
وقد كان من أول انجازات الناصرية، أنها ألغت ازدواج التقاضي أمام المحاكم الشرعية والمجالس الملية القبطية، ووحدت التقاضي أمام محاكم وطنية، وألغت بذلك أوقح مظاهر التدخل الأجنبي بحجة حفظ حقوق المسيحيين، وأنهت تفرقة لا معنى لها بين مسلمي مصر وأقباطها، كما حافظت الناصرية على تقاليد استقرت قبلها، وأكدت حرية العقائد الدينية ووحدة الانتماء الوطني، ولم تشهد المرحلة الناصرية أبدا ظاهرة الفتن الطائفية، رغم أن الكتب والمجلات الدينية إسلامية ومسيحية صدرت بكثافة غير مسبوقة في الخمسينيات والستينيات، والسبب باختصار كما يقول المؤرخ د. يونان لبيب رزق 'أن الناصرية استطاعت بمهارة أن توظف الوجه المضيئ والحقيقي للدين لخدمة مواطنيها بدلا من جعله أداة للارهاب والقهر والتسلط'، وبلغت الوحدة الوطنية حدا أزعج المتربصين بها من القوي الاستعمارية، وقد أصدر مؤلف أمريكي سنة 1963 كتابا عن الاقباط أسماه 'الأقلية الوحيدة'، وتعجب فيه من مسالمة الاقباط وتأييدهم لعبد الناصر 'رغم أن القومية العربية التي يترنم بها نظام عبد الناصر هي صنو مرادف للاسلام، ورغم أن الناصرية هي الاسلام بدون الاخوان المسلمين' على حد وصفه طبعا.
وقضية المساواة المواطنية من عدمها ليست هيئة، إنها تمس مثلا مسيحيين يبلغ عددهم نحو ( 10') من سكان الوطن العربي، ثم إنها تؤثر في القدرة على تمتين النسيج الاجتماعي في مواجهة الاختراقات الاستعمارية، واختلاف الناصرية مع جماعات الاسلام السياسي بشأنها يقدم دليلا آخر على الفارق الملموس بين معنى التوفيق الفعال ومعنى الموروث الجامد باسم الاسلام.
أما هل تتفق المساواة المطلوبة مع الاسلام؟ فأظن أنها تتفق، ليس بمنطق المصلحة الفقهي وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وحدها، ولكن أيضا لأنها تتفق مع توجيه الشرع الحاكم في القرآن والسنة النبوية، ولست أفتي بغير علم، وانما أترك الأمر لأصحابه، يقول الدكتور محمد سليم العوا: 'إن القاعدة العامة وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيفة المدينة، وهي أن لغير المسلمين نفس الحقوق وعليهم نفس واجبات المسلمين' أما الجزية 'فقد فرضت كبدل لعدم مشاركة المسلمين في الدفاع عن دار الاسلام، والصحابة والتابعون أسقطوها عمن شارك منهم في القتال، أما بالنسبة للنص القرآني المقرر للجزية 'حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون'، هنا يضيف د . العوا: أن أمر ذلك النص يشبه أمر النص المعدد لمصارف الزكاة، وقد أجمع الصحابة في عهد عمر على إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم رغم أنه ورد بنص القرآن، وقال الفقهاء انه رأي سديد 'لأن في الحكم علة دار معها فحيث توجد يوجد الحكم وحيث تنتفي ينتفي الحكم'، وقد اختلفت الظروف وأصبح الجميع مسلمين وغير مسلمين يشاركون في واجب الجندية، ومن ثم فلا معنى لفرض الجزية، وينقل المفكر والمستشار طارق البشري عن الشيخ عبد المتعال الصعيدي قوله: 'يقيني أنه بفتح باب الاجتهاد يمكننا التوفيق بين الحكم الديني والحكم القومي لأنه لا يلزم أن يكون هناك خلاف بينهما، والإسلام ينظر إلى أبناء الوطن الواحد من مسلمين وغير مسلمين على أساس أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وفي هذا الاساس تجتمع الحكومه الاسلامية والحكومة القومية، وهذا هو طريق جمال الدين الافغاني ومحمد عبده'، ويدعو البشري إلى مراجعة الاجتهادات الفقهية المتقادمة التي تمنع غير المسلمين من تقلد وظائف الإمامة 'الرئاسة' أو القضاء أو إمارة الجيش، وحجته: أن شروط ممارسة تلك الوظائف تغيرت كثيرا في عصرنا وحدث تفتيت وتوزيع للسلطات وحلت الهيئات محل الأفراد في اتخاذ القرارات، وخاصة إذا ما تم الأخذ بالاساليب الديمقراطية في بناء الدولة، وعلى نحو يمكن من المساواة التامة بين المواطنين جميعا مسلمين وغير مسلمين .