المثقف والسلطة.. غازي القصيبي نموذجا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محمد الرميحي
رحم الله غازي بن عبد الرحمن القصيبي رحمة واسعة، فقد كان بجانب كل ما قيل فيه من أصدقائه ومحبيه، نموذجا حديثا ومبتكرا لعلاقة المثقف بالسلطة في مجتمع سريع التحول. تابعت في الأيام القليلة الماضية ما كتب عنه وحوله. ووجدت أنه في غمرة الشعور بالخسارة الفادحة، ثمة عبارات أفلتت من مؤبنيه مثل "لم تلوثه المناصب" أو "لم تفسده الوزارة" أو "لم يكن من المرتشين". ومثل هذه العبارات تنم عن موقف نفسي خفي، يظهر في العبارات العامة، تجاه أصحاب السلطة والعاملين معهم، رسخ في ذهن كثيرين، إلى درجة الوصول إلى محصلة، أن نفي الوقوع في ممارسات كهذه يكفي لأخذ صك البراءة. والمسكوت عنه في مثل هذه العبارات مع أنه معلوم بالضرورة، أن كل مثقف يقترب من السلطة لا بد من إمكان إفساده!
تجربة غازي في دول الخليج عامة وليس في السعودية خاصة، تجربة مثيرة للانتباه ومحط تأمل أعمق من كونه شاعرا مرهفا وكاتبا مبدعا وإنسانا محبا للحياة أو رجل دولة "لا تلوثه المناصب". تجربة غازي التي خاضها بشجاعة هي أعمق وأكثر ثراء وهي المواءمة، أو محاولة المواءمة، بين الوطنية والتحديث. وهي تجسير لهذه الفجوة العميقة التي كانت وما زالت هي أساس التحدي في مجتمعاتنا بين سلطة تقليدية ومطالب التحديث.
حتى تتضح الصورة فإن ما واجه العرب منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم قضيتان هما أساس كل ما تفرع منهما من قضايا ومعضلات، الأولى هي مواجهة العرب بأن يقوموا بحل معضلة عالمية عجز عنها الغرب، وهي المعروفة بـ"المسألة اليهودية"، والقضية الثانية فرضتها صدفة الأيكولوجيا، أي تغذية الغرب بالطاقة الكربوهيدراتية الكامنة تحت أرضنا. هاتان المسألتان على ضخامة نتائجهما السياسية والاجتماعية أثرتا على عرب المشرق حيث إنها مجتمعات بسيطة غير مهيأة لهذا التحدي الضخم، وهي المسألة الثالثة. في ضوء هذه الثلاثية (يهود، طاقة، تخلف) التي واجهها العرب باجتهادات مختلفة أخفقت، فمن قائل إن حكم العسكر يمكن أن يواجه التحدي، وفشلت كل التجارب في حكم العسكر، ومن قائل الحكم اللاهوتي قد يواجه التحدي، وفشلت التجارب أيضا. باختصار واجه القصيبي - كنموذج للمثقف - البحث عن مخرج معقول للبدء، ولا أقول السير، في النظر إلى طريقة لبدء مسيرة المواجهة الصعبة. فكان أن توصل إلى معادلة مفادها أن "تغيير السلطة أو الدعوة لتغييرها" لا يؤدي إلى أول طريق النهضة، بل ربما أول طريق الخراب. لذا فإن أفضل مفهوم ممكن لمواجهة التحدي على المدى المتوسط هو "الإصلاح من الداخل" مع الإبقاء، بل والحفاظ، على القائم من السلطة السياسية، أي القيام وتعضيد مشروع التحديث ومواءمته مع المعطى الاجتماعي والسياسي. فخاض القصيبي معركتين معا، الأولى مع المتشددين في الداخل، حتى لا أقول مصطلحا أكثر ملامسة لواقعهم، ومع الهجمة البربرية التي تقودها دولة ضد إخوة وأهل تقريبا ليس لهم من القوة غير الحجارة والحناجر في فلسطين. في هذه المعركة الثنائية يمكن العثور على مشروع غازي القصيبي تاريخيا. ولعل اختياره لعنوان أحد دواوينه "معركة بلا راية" هو الاستعارة المبطنة لتلك المعركة. رمي حل المعضلة اليهودية على كاهل أهل المنطقة، وفي نفس الوقت مطالبتهم بتزويد العالم الصناعي بالطاقة. على ما في هذين العبأين من أهوال ونتائج، ليس آخرها التدخلات المباشرة وغير المباشرة في سير الأوطان، ولا أولها تعطيل التنمية الحقيقية الشاملة، جعل من أهمية تجسير الفجوة بين المثقف والسلطان ضرورة تاريخية.
معيار غازي الذي سوف يرجح كفته تاريخيا أنه خاض معركة التحديث بكل ما تتطلب من شجاعة، وواجه عظائم الاتهامات، لأنه كان يوقن بأن حل المعضلة الأولى (مواجهة الظلم التاريخي في فلسطين) لن يتأتى من مجتمعات منقسمة لم تقبض بعد على وسائل وأدوات الحداثة. لذلك كانت عناوين معارك القصيبي هي إصلاح التعليم، تمكين المرأة، التنمية، أو بكلماته "أهمية مراجعة الموروث الحضاري والديني لمواكبة تقدم الحياة".
على المستوى الشخصي، دفع غازي أثمانا باهظة ليس أقلها أن ينشر ويحرم أهله من القراءة، حتى أواخر أيام حياته، ولكن أكثرها إيلاما تلك الهجمات التي استخدمت فيها أبشع الألفاظ وأحط التهم في شخصه وفيمن عمل معه. في النصف الثاني من الثمانينات وجدنا غازي القصيبي، اتساقا مع ما آمن به، يحذر وينذر من الهجمة العشوائية لمدعي التدين السياسي. قابل كثير منهم هذا الإنذار بهجمات لا هوادة فيها، اختلط فيها القليل من الحق بالكثير من الباطل، بتهم العمالة والردة وحتى الكفر، إلا أن نظرة غازي في النهاية كانت راجحة، فتحول أولئك ضد الوطن فيما بعد التسعينات حيث كشفوا عن أجندتهم، وما زالوا كذلك، تحت شعارات مختلفة همّها في الأساس وقف الإصلاح، وتهيئة البيئة لانفلات بغطاء الإرهاب لا يعرف نتائجه أحد، إن سار الناس على هواهم.
تفاصيل سجل غازي القصيبي طويل يستعصي على البحث في عجالة، إلا أن المهم تأكيد تلك المعادلة الصعبة (الإصلاح والتطوير من الداخل) تهيئة لمواجهة مخاطر الخارج ومن ثم البناء عليها لاستكمال نظرية الإصلاح. ثروة المجتمع وطريقة استثمارها الاستثمار الصحيح لمواكبة التقدم بالعلم والمعارف والتنظيم الحديث هي ما شغل القصيبي في كل مساره الطويل والمثمر والوطني، وإن ترك غازي تلك المعادلة التي فهمها عدد من المثقفين في الخليج فسوف يكفيه أن يتسنم لواءها متقدما بين الصفوف.
تلك لبنة من مسيرة غازي بن عبد الرحمن القصيبي الفكرية، الصديق الذي خسرناه، وسوف تحتاج إلى تعميق وسبر ودراسة من آخرين، إلا أنها حجر زاوية مهم في البحث عن طريق بين المثقف وأهل السلطة في خليجنا اليوم.