حقا تراجع شعور العرب القومي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ميشيل كيلو
ليست فكرة الوحدة العربية، وليس ما يفترض بها أن تمليه من سياسات وممارسات وعلاقات، في أحسن أحوالها. لقد تراجعت كثيرا في العقود الأربعة الأخيرة، التي اتسمت بتدهور المسعى الوحدوي، وبتقدم النظام السلطوي، 'القطري'، الذي تنصب جهوده جميعها على توطيد نفسه، أي على تكريس سلطانه في الدولة المحلية، التي كانت بعض رموزه تعتبرها إلى الأمس القريب عدو الوطنية والوحدة، وصارت اليوم، في لغة هؤلاء وليس في الواقع نفسه، رافعة للعمل القومي وساحة تتجسد فيها مصالح الأمة وقدراتها، وانقلبت، في واحدة من أغرب مفارقات الواقع العربي الراهن، إلى مركز لوحدة العرب، يمارس وظائف وحدوية تتخطى قطريته، التي كانت شيطانية وغدت ـ في لغته وليس في الواقع ـ رحمانية، قطرية ولكن رحمانية.
صحب التراجع في الواقع تراجع في الوعي وتاليا في موقف وشعور المواطن العربي حيال ما يجري في بلدان العرب الأخرى، وفي بلده الخاص. كما تبلورت نظرة 'قومية' تقبل القطرية والتجزئة، إن كانتا ضروريتين لدعم نظم حاكمة، أو كان يتم الدفاع عنهما ضد نظم وسياسات أخرى: عربية وأجنبية. صار المواطن العربي أقل مناعة ضد تحريضه باسم قطره على أقطار أخرى.
ولم يعد يترنم بما كان عرب مطالع القرن العشرين ينشدونه بإيمان: 'بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان'. صار العربي يقبل أن تحرضه حكومته ضد مواطنيه في ديار العرب الأخرى كما في بلده، وأقنع نفسه باعتماد سياسات حكامه معيارا يقيس من خلاله مواقفه في المجالين الوطني والقومي. ولعلنا لم ننس بعد السلبية التي أبداها المواطنون في سورية والعراق حيال مواقف نظاميهما أحدهما من الآخر، وما ترتب عليها من تدابير عملية أدت إلى قطيعة عامة بين مواطنيهما استمرت قرابة ربع قرن، مع أنهما بلدان شقيقان وجاران كثيرا ما ظلت حدودهما مفتوحة أمام انتقال مواطنيهما بينهما بحرية وبدون تأشيرة خروج حتى عام 1936، وبتأشيرة يسهل الحصول عليها بعد هذا التاريخ، بينما كان أبناء وادي الفرات يجهلون غالبا إن كانوا عراقيين أم سوريين، لأنهم كانوا يعيشون يوما هنا، على هذا الجانب من الحدود، ويوما هناك، على جانبها الآخر، ويمارسون شراكة وجودية في شتى الميادين: من الحياة اليومية، إلى الأفراح والأتراح، إلى المعتقدات السياسية. ما أن تغيرت مواقف النظامين أحدهما من الآخر، حتى انصاع مواطنوهما للواقع الجديد، وجمدوا أو قطعوا علاقاتهم الشخصية والعامة، وتناسوا أو نسوا أنها ابنة تاريخ واحد وموحد، مديد وضارب في الزمن، وداخل نفوسهم!.
هل تراجع حقا شعور العرب القومي؟ أعتقد أنه تراجع في واقعهم أولا ثم تراجع في ضمائرهم، التي دخلت في طور كمون جعلها عاجزة أو عازفة عن التعبير عن نفسها، وهيأها لقبول سياسات بلدانها القطرية، المفعمة بالعداء حيال بعضها، دون اعتراض، حتى كأن إيمانه الطبيعي، ما قبل السياسي، بوحدة العرب قد تلاشى. يتصرف المواطن العربي اليوم وكأن التفكك العربي، السياسي والطبيعي، قدر لا راد له، أو كأنه يرى في استمرار القطيعة والعداء مع بقية العرب شيئا عاديا يتفق مع أفكاره ووعيه ومصالحه، ولم يعد أمرا فرض عليه، يتعارض ويتناقض مع فطرته وروحه.
حتى ستينات القرن الماضي، كانت أية حادثة تقع هنا أو هناك تستدعي ردود أفعال ينخرط فيها عدد هائل من المواطنين العرب، في كافة أقطارهم وأمصارهم. ثمة حادثتان كاشفتان تؤكدان ذلك : اعتقال المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد عام 1956، ومقاطعة الباخرة المصرية كليوباترا في أمريكا عام 1958. بعد اعتقال جميلة بوحيرد على يد سلطات الاحتلال الفرنسي في الجزائر، بقي ملايين العرب طيلة أسابيع وشهور وسنوات في الشارع. ترك المواطن العربي كل شيء وتفرغ لقضية جميلة، التي تحولت إلى رمز للنضال والتضحية، وحظيت باحترام وحب ملايين العرب، الذين سارع كثيرون منهم إلى إطلاق اسمها على وليداتهم، ووضعوا صورها في بيوتهم، وجعلوها أعز قضاياهم، فكان تفاعلهم معها انتسابا وجدانيا إلى وحدة العرب وثورة الجزائر، ومارس ضغطا يوميا على حكوماتهم، التي وجدت نفسها مجبرة على دعم قضيتها ماديا ومعنويا وعلى حملها إلى المحافل الدولية.
أما الباخرة كليوباترا، فقد أبحرت إلى نيويورك لحمل شحنة قمح اشترتها مصر، لكن عمال المرفأ قرروا مقاطعتها. في اليوم التالي، تنادى العمال العرب بين المحيط والخليج إلى مقاطعة سفن وطائرات أمريكا، وأوقفوا شحن السفن الأميركية والتعامل معها، وامتنعوا عن خدمة طائرات أمريكا في المطارات، في حين قطعت نقابات عمالية عربية عديدة صلاتها بالنقابات الأمريكية، وهددت باتخاذ تدابير اضافية في حال استمرت مقاطعة الباخرة المصرية. بعد أيام، تراجع الأمريكيون أمام الضغط الهائل الذي تعرضت له مصالحهم. لم تدع أية جهة رسمية عمال الوطن العربي إلى القيام بما فعلوه، بل إن بعض الحكومات امتعضت بصمت - مما قرروه ونفذوه. أثبتت الطبقة العاملة العربية أن العرب صاروا حقا امة واحدة، وتصرفت دون أن تنتظر مواقف حكوماتها، بل وبما أحرجها واضطرها إلى تأييد موقف العمال ومصر.
لم يعد الشعب العربي يتصرف كجسدية قومية واحدة. وانتشرت في كل مكان من دنيا العرب عملية نزع مدروس وموجه للسياسة، أدت إلى غربة عامة عنها، وبالمقابل إلى غربتها هي عن المجتمعات العربية والإنسان العربي، وتم إبطال أي نشاط يشير أو يحيل إلى العمل القومي بما هو فاعلية سياسية أو حرة يمكن أن يمارسها المواطنون، فكان في نزع السياسة عن المجتمعات نهاية النضال الشعبي القومي، وتهميش الشعب العربي: الحامل الحقيقي للفكرة الوحدوية. بخروج الأمة والمواطنين الأفراد من السياسة، تراجعت الفكرة القومية من واقع الأمل اليومي والملموس إلى عالم الشعور الأخرس، وفقدت تعبيراتها الملموسة التي كانت تجسدها في حياة المواطن اليومية، وفقدت أهميتها كمحرك لسياسات العرب، وقبل المواطن العربي التفرج بحيادية أو بحدود دنيا من ردود الفعل على المجازر اليومية في فلسطين، وعلى احتلال العراق وإبادة شعبه، وعلى لبنان الذي يتخبط في دمائه، وحلت محل فكرة الأمة الجامعة تكوينات قطرية وسلطوية وطائفية وعشائرية، ما قبل أموية ونافية بنيويا للأمة، جسدت الدرك الذي انحدرت إليه أحوال العرب، وأسهمت في تأجيج خلافاتهم وتفجير صراعاتهم، وجعلت من الممكن تحريض مواطنيهم بعضهم ضد بعض، وسعت لاستبدال رابطتهم القومية الجامعة بروابط دنيا تمزيقية، يكتسب النظام القطري الراهن شرعيته منها، ويكرس من خلالها انتماءاته الجزئية النافية لكل ما هو عربي، ويدمر وعي مواطنيه الوحدوي ويعيد إنتاجه في حاضنتها، فلا عجب إن هم نسوا أو تناسوا روابط التاريخ والطبيعة التي تجمعهم بغيرهم من العرب، ولا عجب أيضا أن تزايد انهيار ما كان يسمى النظام العربي، الذي عبر عن مرحلة الصعود الشعبي القومي، في حقبة الناصرية الصاعدة، ثم تلاشى تدريجيا إلى اختفى تماما في ظل النظام ما قبل الوطني، نظام التكوينات الدنيا ما قبل القطرية، القائم اليوم.
فصلا عن هذه الحواضن الدنيا، التي تسهم في تمزيق الكيان العربي الكبير وتستبدله بكيانات سلطوية تتعين بذاتها، تنكر وحدة شعبها فلا يعقل أن تقر بوحدة أمتها، برزت في السنوات الأخيرة فكرتان جامعتان بديلتان للفكرة القومية، عبرتا عن نفسيهما في أصوليات مذهبية من جهة، وسلطوية من جهة أخرى، أوهمت ـ أو أقنعت ـ المواطن أن هجر الجامعة القومية ليس خسارة بل هو كسب، وأنه يستبدلها بأفكار أفضل منها هي في حالة الأصولية المذهب الديني الذي ينتمي المواطن إليه، وفي حالة السلطة مذهب النظام السياسي، الذي يخضع له. يقول البديل الأصولي: إن الفكرة القومية غريبة عن المواطن، الذي لا يجد ـ ولا يجوز أن يجد ـ داخل عقله غير فكرة واحدة تعبر عن هويته ووجوده، وتأخذه إلى عالم تاريخي أكبر وأكثر واقعية بكثير من عالم القومية، هي الفكرة المذهبية/الدينية، فلا أسف على الفكرة القومية: الغربية والغريبة في أصلها ومقوماتها، ولا عودة إليها، لأنها تمزق جماعة مقدسة وحدها الله، وحملت رسالته.
قوض صعود الأصولية المذهبية/الدينية فرص يقظة الوعي القومي. ودمر صعود الأصولية المذهبية/السلطوية، بما تمثله من قطرية عضوض معززة ومحدثة أمنيا، وما تفعله لنزع السياسة من المجتمع والمواطن، الوعي والشعور القومي وصعّب استعادتهما، وإن في صور أقل من تلك التي استبطناها خلال حقبة صعودهما الكبرى بين أوائل الخمسينات وأواخر السبعينات من القرن الماضي. لذلك، لا مبالغة في القول: إننا نعيش اليوم في زمن ما قبل مجتمعي/ما بعد قومي، مشحون بتناقضات وعقد يستحيل حلها بغير إعادة المجتمع إلى السياسة والسياسة إلى المجتمع، واقتناع المواطن باتفاق الفكرة القومية مع الإسلام، وبأنها ظهرت مع انتصاره الأول، لتكون حاضنة تعينه على توطيد مكانته ودوره في العالم.
نعم، لقد تراجع الوعي والشعور القومي كلاهما. هذه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، يتطلب تجاوزها نمطا من الفهم والعمل مغايرا للنمط الذي تبنته بعض القوى القومية في الماضي ثم تخلت عنه بمجرد أن وصلت إلى السلطة ؛ نمط يتخطى أي حزب أو سلطة، يوقظ في المواطن العربي وعي الانتماء إلى أمته العظيمة والمظلومة، التي يجب عليه العمل بتفان ودأب لإنهاضها من عثرتها: التي يمكن أن تصير قاتلة!