خلفيات التسلح في الخليج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
جيفري كمب
في ذروة سنوات الحرب الباردة خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، تبادلت كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي عدوى توسيع دائرة نفوذهما، لتشمل الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا والقارة الأفريقية. وفي إطار سعيهما لأن تكون لكليهما يد طولى على أصدقائهما الإقليميين، فقد أبدى العملاقان سخاءً في تقديم المساعدات العسكرية، التي عادةً ما تكون إما مجانية، أو على أساس جداول سداد طويلة المدى وسخية للغاية. وعلى رغم حداثة معظم الأسلحة التي شملتها تلك المساعدات، فلم تكن تضاهي حداثة وتقدم آخر منتجات الأسلحة المتطورة المتوفرة في ترسانات الدولتين العظميين في ذلك الوقت. فقد ترددت كل من واشنطن وموسكو آنئذ من أن تشمل عروض مساعداتهما العسكرية للدول الصديقة والحليفة، أحدث المقاتلات الجوية، والغواصات المتطورة، إضافة إلى امتناعهما عن توفير ترسانات الأسلحة النووية والبيولوجية لأصدقائها الدوليين في البلدان المذكورة.
غير أن بدايات عقد السبعينيات، شهدت تغيراً في تلك القيود المفروضة سابقاً، لاسيما في شحنات الأسلحة المتجهة إلى إسرائيل ومجموعة الدول الشرق أوسطية المنتجة للنفط. فقد أدى الارتفاع الهائل في أسعار النفط في ذلك العقد، إلى ارتفاع مماثل ومفاجئ لثروات دول المنطقة المنتجة للبترول، والمستقبلة في ذات الوقت للمساعدات العسكرية الأميركية، بما فيها إيران بالطبع.
وكان شاه إيران حينها، قد أصيب بحمى شراء لا شفاء منها للأسلحة، شجعت الشركات الأميركية على قبول جميع طلباته والموافقة عليها بأسرع ما يمكن، وخاصةً أنه كان مسموحاً له بشراء أحدث المعدات الحربية التي يستخدمها الجيش الأميركي. وكانت "البنتاجون" قد وافقت مبدئيّاً على تلك المبيعات، طالما نظر إليها الخبراء الدفاعيون الأميركيون على أنها وسيلة لخفض سعر وحدة تكلفة معدات الجيش الأميركي. غير أن الوزارة اكتشفت فيما بعد أن بيع أحدث المعدات الحربية لإيران قد تسبب لها في مشاكل كثيرة لاحقة، بما في ذلك كيفية توفير التدريب اللازم للقوات الإيرانية على استخدام وصيانة نظم الأسلحة الحديثة المتطورة تلك.
والحقيقة أن تزايد اعتماد طهران على مساعدات ومبيعات الأسلحة الأميركية، أصبح كابوساً مؤرقاً لقادة الثورة الإسلامية لدى اندلاعها في عام 1979. ذلك أن تشديد العقوبات العسكرية على طهران من جانب واشنطن، ووصول تلك العقوبات إلى حد الحظر الكامل لشحنات المعدات وقطع الغيار الحربية للنظام الإيراني، قد عطلا القدرات القتالية الجوية للجيش الإيراني، إلى حد أعجزه عن تنفيذ أية عمليات جوية تذكر ضد العراق طوال سنوات الحرب الثماني الطويلة التي خاضها ضده، 1980-1988. وكان طبيعيّاً أن يتعلم الإيرانيون أهم الدروس الحربية لنظام الشاه السابق: أي ثمن اعتماد طهران على مصدر واحد رئيسي للأسلحة.
وإذا كان ذلك حال سياسات الدولتين العظميين خلال الجزء الأعظم من سنوات الحرب الباردة، فإن الدول الكبرى المنتجة للأسلحة، ولاسيما الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا وروسيا، تنظر إلى مبيعات الأسلحة وتصديرها، باعتبارهما مكوناً رئيسيّاً من مكونات سياساتها الأمنية العامة، فضلاً عن كون مبيعات الأسلحة هذه، وسيلة فعالة للحد من تكلفة استدامة تسليح جيوشها وتزويدها بالعتاد الحربي الحديث المتطور. وبالنتيجة فقد أصبحت دول الخليج العربي سوقاً رئيسية لمنتجات أميركا الحربية.
وكانت المملكة العربية السعودية أولى دول المنطقة التي تقدمت بطلب لشراء الصواريخ الدفاعية ونظم المقاتلات الجوية الاعتراضية من كل من أميركا وبريطانيا في عام 1965، مدفوعة إلى ذلك بهواجسها الأمنية من التدخل العسكري المصري آنذاك في الحرب الأهلية اليمنية. ومنذ عقد الثمانينيات أصبحت مبيعات الأسلحة الأميركية لدول الخليج، سمة رئيسية من سمات العلاقات الاستراتيجية الجديدة بين واشنطن وهذه الدول. غير أن هذه المبيعات أثارت قلق إسرائيل كثيراً، لاسيما قرار إدارة ريجان، بيع نظم الإنذار والتحكم الجويين "الإيواكس" للمملكة العربية السعودية في عام 1981. هذا ولم تكتف إسرائيل بمجرد التعبير عن قلقها إزاء مبيعات الأسلحة المتطورة هذه للدول العربية المحيطة بها فحسب، بل مارست أيضاً نفوذها وضغوطها على واشنطن عبر جماعات اللوبي هناك. وبالنتيجة، انتهت الحكومة الأميركية -بضغوط من الكونجرس- إلى فرض بعض القيود على مبيعات مكونات نظم الأسلحة المتطورة جدّاً.
واليوم تعتبر منطقة الخليج أكبر مشترٍ لمنتجات الأسلحة الأميركية. وقد أثبت بيع أميركا للمعدات وشراكاتها مع دول المنطقة في مجال التسليح كونه نجاحاً كبيراً ومثالاً عمليّاً على التعاون بين الخدمات المسلحة في كلتا الدولتين. وطالما ظل الطلب على الأسلحة الحديثة المتطورة، انعكاساً أو استجابة مباشرة لظروف عدم الاستقرار الإقليمي -بما فيها المهددات الأمنية العراقية سابقاً، ثم المهددات الإيرانية فيما بعد- فإن من المرجح أن تبقى الولايات المتحدة مورّداً رئيسيّاً لمشتريات المنطقة من الأسلحة خلال السنوات المقبلة.
وربما ترغب الدول العربية في تنويع مصادر أسلحتها، تفاديّاً لمشكلة الاعتماد على مورّد واحد رئيسي هو الولايات المتحدة الأميركية، مثلما حدث لإيران في أواخر سبعينيات القرن الماضي. غير أن الحقيقة هي أن لاعتماد الدول على أنواع متماثلة من الأسلحة فوائد عسكرية كبيرة، لاسيما في تعزيز قدرة الدولة المعينة على تنفيذ العمليات التي يتداخل فيها استخدام تلك الأسلحة والعتاد الحربي عند نشوب النزاعات المسلحة. ويضاف إلى ذلك أن من شأن تغيير الأسلحة في وقت تسوده الاضطرابات وظروف عدم الاستقرار الأمني، أن يقوض كفاءة القوات المسلحة للدولة المعينة، علاوة على أن تغيير الأسلحة عملية باهظة التكلفة في حد ذاتها.
وعلى رغم ارتفاع الكثير من الأصوات المطالبة في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية بالحد من تصدير الأسلحة وبيعها لمناطق النزاعات في مختلف أنحاء العالم، فإنه ليس مرجحاً لهذه المطالب أن تتحقق، قبل التصدي للأسباب الكامنة وراء النزاعات. والقاعدة هي أن تحل النزاعات أولاً وقبل التحكم في الأسلحة.. وليس العكس كما يقتضي المنطق.