جريدة الجرائد

العرب وقضية تقرير المصير الثقافي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مالك التريكي


يتبين من التقرير المطول الذي نشرته 'القدس العربي' الأسبوع الماضي عن 'الملتقى الثاني للتواصل بين مشرق الأمة العربية ومغربها'، الذي عقد أوائل هذا الشهر على هامش معرض الكتاب الدولي في دمشق، أن قضية التوحيد الثقافي بين جناحي الوطن العربي لا تزال حاضرة في وعي شرائح من المثقفين العرب رغم كثرة مظاهر التعصب المحلي والأنانية القطرية التي توحي بالعكس وتصيب بالحسرة.
إلا أنه قد بدا من محاور البحث واتجاهات الرأي، حسبما عرضها التقرير، أن قضية التواصل التي تشغل بال الباحثين إنما تتعلق، في المقام الأول، بالتواصل بين النخب الثقافية والإبداعية وبتعزيز تبادل المنتج الثقافي المشرقي والمغربي على نطاق أشمل. وهذه بالطبع قضية هامة لأن هذا النوع من التواصل لا يزال محدودا نسبيا، ولو أنه لا سبيل إلى إنكار حقيقة أن العقود الثلاثة الأخيرة، بوجه خاص، قد شهدت تناميا في المعرفة المتبادلة والعلاقات الشخصية بين النخب الثقافية المغربية والمشرقية، وأن المجلات الثقافية العربية أصبحت جامعة، بتنوع النصوص، لشتات الأقطار. كما صار المنتج الشعري والروائي والمسرحي والفكري متاحا في معظم البلاد العربية بشكل عزز التعارف بين جناحي الوطن.
قضية التواصل بين النخب الثقافية العربية قضية هامة. إلا أن الأكيد أن الأهم منها هي قضية التواصل بين الشعوب العربية. ذلك أن التواصل الاجتماعي (عبر التزاوج والتجارة والسياحة على سبيل المثال) والتواصل الإعلامي (عبر تبادل المسلسلات والبرامج بمختلف اللهجات) والتواصل الجامعي (عبر تبادل الطلاب والأساتذة) وغير ذلك من أشكال التواصل العملي بين عامة العرب من مختلف الأقطار هو التواصل الذي لا بد منه لبلوغ 'الكتلة التاريخية' التي تمكّن العرب من الوعي بإرادتهم وبقدرتهم على تقرير مصيرهم الثقافي على النحو المشهود لدى الأمم الحية. فالتواصل بين المشرق والمغرب ليس مسألة اهتمام بالآخر أو حب اطلاع على الغريب، وإنما هو اضطلاع الذات القومية بواجب المعرفة بذاتها. هو خروج الذات من الغفلة عن ذاتها. فهو تواصل لا يستمد معناه إلا من كونه شرطا لازما للوعي بالذات: الوعي الذي هو مبدأ القدرة على الفعل التاريخي. أي أنه، في هذه الحالة، الخطوة الضرورية الأولى على طريق التكامل التدريجي بين الشعوب في صيرورة تاريخية تفضي إلى إعادة توحيد الأمة العربية.
ذلك أن أول عوائق التواصل بين المشرق والمغرب، مثلما أكد الباحثون، هو ضعف الوعي بالهوية أو انعدامه. هذا إضافة إلى عوائق الافتراق بين السياسي والثقافي، ومفاعيل الاستعمار الذي كرس التباعد والتجاهل، واستدامة البنية التسلطية أو الأبوية في كامل البلاد العربية. ولا شك أن هذه عوائق كبرى. كما لا شك أن الدولة القطرية بأشكالها الحالية هي العائق البنيوي الأخطر: فبينما ينزع الثقافي نحو الوحدة ينزع السياسي نحو التشرذم وتكريس الأمر الواقع. في ضوء هذه الحقيقة المانعة لإمكان التواصل والتنسيق، ناهيك عن التكامل والتوحيد، يتبين مدى استحالة تنفيذ توصيات الملتقى بشأن 'توحيد التعليم في كامل الوطن العربي'، والتنبه إلى 'مخاطر انهيار المنظومة التربوية لصالح مدارس خاصة ستعيد إنتاج أشباه الخواجات المغتربين عن واقعهم'. وليس أدلّ على ثبات هذه الحقيقة على مر العهود مما أخبرنا به العلامة ناصر الدين الأسد من أنه وضع منذ الخمسينيات، عندما كان يعمل في الجامعة العربية، مع مجموعة من المختصين خطة متكاملة لتوحيد مناهج التعليم في جميع البلاد العربية. لكن هذه الخطة بقيت، بالطبع، طي الأدراج.
على أن هذا لا ينفي اليوم 'ضرورة العمل على إنقاذ اللغة العربية'. فلا جدال، كما بين الباحثون، أن لا مجال لتواصل ذي معنى بين جناحي الوطن في ظل ما تواجهه اللغة العربية من مخاطر تشمل الأخذ بالإنكليزية لغة وحيدة للتعليم، والأخذ باللهجات العامية (أي الفروع التي تعمق التشرذم) بديلا عن الفصحى (أي الأصل الذي يكرس الوحدة). مخاطر قد تجعل اللغة العربية 'عرضة للانقراض' بمثلما حدث للغة اللاتينية، حسبما ذهب إليه أحد تقارير اليونسكو. مبالغة؟ ربما. لكن الأكيد أنها مخاطر تتفاقم وتتعاظم طالما ظلت السياسة مخلدة إلى خدر الرداءة، وطالما ظل التعليم عاجزا عن التعلم من تجارب دول صغيرة، مثل فنلندا والنرويج وإسرائيل، ولجت النهضة العلمية من باب اللغة القومية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف