أفغانستان.. من أين تأتي أموال طالبان؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"الحوالات" والأفيون والخوّات أهم المصادر
لويس أمبير
فيما يتحضر الأفغان لانتخاب برلمانهم الجديد، شرع موقع "ويكيليكس" في نشر وثائق جديدة تؤكد التورط الغربي في أفغانستان. مع ذلك، صوت الكونغرس الأميركي على 59 مليارا إضافية لتمويل الحرب هناك. لكن جزءا من هذه الأموال سيجد طريقه إلى جيوب حركة طالبان.
لم يحالف حجي محمد شاه الحظ. ففي العام الماضي، بدأ بشق طريق في ضواحي قندوز، شمال أفغانستان: 25 كيلومترا يفترض أن تسمح لمزارعي مقاطعة شهار دارا بالوصول إلى سوق مركز المقاطعة لبيع محاصيلهم. كلفة المشروع 63600 يورو تقدمة من البنك الآسيوي للتنمية. ومنذ بداية الأشغال، حضر أحد عناصر طالبان للمطالبة بضريبة يدفعها مجلس قدماء المقاطعة، الذي كان يشرف على المشروع. فقام هؤلاء بدفع 13900 يورو، كي لا يتم تدمير الطريق قبل إنجازها. ثم وصل مبعوث آخر، فدفعوا مجددا. لكن عند ثالث طلب، أجابوا بأن المال قد نفد منهم. النتيجة: أنه في يوم من أيام مارس 2010، وبينما كان شاه عائدا من استراحة الغداء في المدينة، وجد عماله رهائن لرجال مسلحين أحرقوا عشرا من آلياته. فبلغت الخسائر 176000 يورو، ولم يبق أمامه سوى الركض وراء شركة التأمين، ولكن من دون جدوى.
مصادر التمويل
يتردد محمد عمر، حاكم قندوز، في تفسير ما حصل. فهو لا يعرف ما إذا كان القدماء لم يدفعوا ما فيه الكفاية أم أنهم لم يقدموا الرشوة للطرف المناسب. يختزل عمر الوضع، مستسلما، ويقول: "يفعل عناصر طالبان هنا ما يشاؤون: يقتلون، يعذبون ويبتزون على هواهم". هكذا يدرك عمر حجم نظام الابتزاز الذي أرساه نظيره الطالباني، "حاكم الظل" في قندوز الذي يستوفي نسبة مئوية على كل ما يبنى في المنطقة تقريبا: الطرقات، الجسور، المدارس، العيادات... فكلما "أعيد" البناء في أفغانستان، أصبحت حركة الطالبان أكثر ثراء.
يؤكد كيرك ماير، المسؤول عن خلية التهديد المالي الأفغاني في السفارة الأميركية في كابول، أن "الجزء الأساسي يأتي من الأموال المحصلة محليا. ونحن لا نعرف إلى أي مدى تتم إعادة توزيع الأرباح الناجمة عن الأفيون في إقليم هلمند على المقاطعات الأكثر فقرا. ففي أمكنة أخرى، يعيش عناصر حركة طالبان بفضل أموال تقدمها منظمات غير حكومية مموهة، وبفعل فديات الاختطاف وتهريب خشب الأرز ومعادن الكروم عبر الحدود الباكستانية...".
أرخص وأكثر أمنا!
عبد القادر مجددي (32 عاما)، مهندس وابن شقيق صبغة الله مجددي، الرئيس الحالي لمجلس الشيوخ وأول رئيس للجمهورية بعد سقوط النظام الشيوعي عام 1992، يشيد في هذه الأيام سبعة كيلومترات من الطرق تحت جبال مقاطعة لاغمان، وبالطبع، ينتشر الحراس حول الآليات، والتفصيل اللافت هو أن نصفهم يرتدي البزة العسكرية والآخرين سترات تقليدية، وجميعهم يرخون لحاهم. لماذا؟ لأن النصف الثاني هم من عناصر الميليشيا الذين أرسلهم إليه مسؤولو طالبان المحليون، مقابل 52 ألف يورو طوال مدة تنفيذ المشروع. ولكن مجددي يؤكد وهو يبتسم: "هذا لا شيء! لو شئت استئجار مائة حارس، لتكلفت 16 ألف يورو شهريا. أما مع طالبان فنحن ندفع 8000 يورو، بالإضافة إلى أن الورشة ستكون آمنة".
كان مجددي قد تعرض لأربع أو خمس هجمات، لكن الهدوء يسود منذ ستة أشهر، في حين يسعد حاكم المقاطعة بالأمر ويغض النظر الأميركيون الذين يمولون الطريق من خلال برنامج عسكري لإعادة الإعمار، يهدف إلى "كسب العقول والقلوب".
ورشة لاغهام هذه ليست حالة معزولة. والي محمد رسولي، النائب السابق لوزير الأشغال العامة والمتقاعد منذ أربعة أشهر، يدافع عن هذا النظام، ويقول: "لقد تحدثت عن الأمر مرتين مع الرئيس حامد كرزاي، وطوال أكثر من ساعتين. فإذا أكملنا العمل بتشييد الطرق، فان تحسن حركة السير والتجارة ينعكس إيجابا على تحسن الوضع الأمني. ونحن ندفع أصلا لطالبان، ويجب وقف هذا الرياء!". ولكن بالنسبة للوزير الحالي كما للمانحين الدوليين، لا مجال للإشارة إلى هذا الاحتمال: فالخط الرسمي ينكر أي تقديمات للمتمردين.
الأهداف الرئيسية للابتزاز هم العسكريون الأميركيون أو تحديدا متعهدو خدماتهم. إذ يقوم شهريا ما بين 6 آلاف و8 آلاف موكب بتموين 200 قاعدة عسكرية بالمعدات اللازمة لاستمرار الحرب (ذخائر، وقود، أدوات مكتبية، ورق صحي، أجهزة التلفزة..). وتقوم شركات خاصة بالتأمين على القوافل في إطار عقد قيمته 2.16 مليار دولار (أي ما يوازي %16.6 من الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان عام 2009) تم التوقيع عليه في مارس 2009 وبات معروفا تحت اسم "النقل ضمن البلد المضيف". ويصف أحد الرسميين الأميركيين في قوة "إيساف" الدولية، هذا الوضع على الشكل التالي: "نحن لا نعرف شبكات المتعهدين الثانويين، ولا نعرف إذا كانوا يدفعون لطالبان كي يؤمنوا عبور الشحن (...). نحن نضخ المليارات في هذه العمليات، ومن الممكن أن تصل بعض الملايين إلى أيدي المتمردين".
التفاوض عبر وسطاء
زرغونا وليزاده، هي المرأة الوحيدة التي تدير شركة للنقل في أفغانستان. تستقبل وليزاده زبائنها، من دون حجاب، في مكتب داكن الألوان يعود طراز مفروشاته إلى السبعينات من القرن الماضي. وهي تدرك الضغوط التي يرزح تحتها الأميركيون في عملهم، وتعرف أنهم لن يدفعوا ثمن الشاحنات التي تتعرض لهجمات على الطرق.
تقول وليزاده: "لمن يجب أن ندفع؟ للشرطة والمتمردين أم طالبان؟ كل ذلك لا يهمني. المهم هو أن تعبر الشاحنات. وفي بعض الحالات، يجري النقل حتى من دون مواكبة.. فما الحاجة إلى المواكبة طالما يؤمن طالبان سلامتنا؟".
غلام عباس آين، رئيس أكبر نقابة للنقل البري، يقر بالأمر، قائلا: "بالطبع نحن ندفع مالا لطالبان. والله العظيم صدقونا، إنه ابتزاز وقح. بعض الشركات الأمنية تتقاضى 2000 دولار للحاوية الواحدة، من أجل بضعة مئات الكيلومترات. وقد يصل نصف هذا المبلغ إلى طالبان".
كيف يجري التفاوض على العبور؟ ليس مباشرة، بطبيعة الحال، كما يقول خوان دييغو غونزاليس، العسكري الأميركي السابق وصاحب شركة الأمن الخاصة الأفغانية White Eagle. ويضيف "لن يوافق رئيسي على التفاوض وجها لوجه مع الزعماء القبليين في هلمند. ولكن لدينا وسطاء يجندون حراسا محليين (...) وأحيانا يقوم الزعيم القبلي نفسه أو نجله بقيادة القافلة. أنت تأمل فقط ألا يكونوا على صلات مباشرة جدا مع طالبان".
أمراء الطرق و"الرولكس"
ويتابع غونزاليس أنه يعمل على الطرقات "حيث توازن النفوذ هش ومتغير". ويضيف: "ما من أمير حرب يضمن وحده عملية العبور، لكنه يؤمن لنفسه بعض الهامش في اختيار شركائه". إلا أن هناك طرقا أخرى، كما يحذر أحد المسؤولين الأفغان في شركة خاصة أسترالية Tac Force، "إذا سلكتها وحدك تقع في متاعب جمة. وإن لم تحصل على إذن من الزعيم المحلي، تمت". وبرأيه إن شركة Tac Force تتبع تعليمات وزارة الداخلية الأفغانية لاختيار أمراء الطرق "المناسبين".
حاليا الأكثر نفوذا من بين هؤلاء يسمى روح الله. وهذا القائد الذي لم يلتق مرة بمسؤول في الجيش الأميركي، يبلغ الأربعين من العمر، يلبس ساعة "رولكس" على ثوبه التقليدي، "الشروال قميص"، ويتكلم من موقع نفوذ غريب الشكل إذ يسيطر على جزء أساسي من الطريق السريع رقم 1 الذي يربط كابل بالجنوب البشتوني عبر قندهار. يعمل روح الله بالتعاون مع الأشقاء بوبال، مالكي مجموعة "وطن"، وأبناء عم الرئيس كرزاي. تتضمن القافلة التقليدية على طرقاتهم حوالي 300 شاحنة يرافقها ما بين 400 و500 حارس خاص. ويمكن أن تصل فاتورة نقل حاوية واحدة نحو قندهار إلى 1200 يورو. وفي المحصلة، وبحسب تقرير حديث العهد لمجلس النواب الأميركي، يتقاضى أمير الطريق وشركاؤه الناطقون بالإنكليزية "عشرات ملايين الدولارات سنويا" لتأمين مواكبة القوافل الأميركية. روح الله، كما الأشقاء بوبال، ينفون تقديم المال إلى طالبان حيث يعجزون عن المرور بالقوة، ويقولون انهم فقدوا 450 رجلا في العام الماضي.
اشتكت عدة شركات أمن ونقل مرارا لدى الجيش الأميركي بسبب الخسائر المالية التي تتكبدها من جراء الاستعانة المنهجية بأمراء الحرب، من دون أن يتوصل العسكريون إلى توفير حل للمشكلة.
مصرفيون يحفظون السر
بيد أن مال حركة طالبان لا تدره البندقية وحدها. فهو يمر أيضا عبر مصرفيين فعالين يعرفون حفظ الأسرار ويمررون التبرعات الكبيرة القادمة من الخليج، عبر دبي وباكستان. أما الحلقة المحورية فهي سوق الصرافين سراي شاهزادة في كابل: ثلاث طبقات مطلة على فناء داخلي، مناضد موضوعة على الأرض مليئة برزم الدولارات والروبيات واليوان، وحشد أقرب إلى زبائن سوق الهال في باريس القديمة في أيام عزه. %96 من الأفغان يفضلون هذا السوق على شبابيك المصارف لإنجاز تحويلاتهم المالية، وفق دراسة لخلية التهديد المالي الأفغاني. فما عليهم سوى الدخول إلى واحد من مئة محل صغير "للحوالات"، لا يدل مظهره الخارجي على حجم تعاملاته، وحيث يقوم نصف دزينة من الموظفين المرتمين فوق كنبات من الجلد الحارق بتمرير حصيلة اليوم من الأوراق النقدية على العدادات الآلية. ترجع هذه الشبكات إلى القرن الثامن الميلادي. وهي تسمح خلال ساعات بتوصيل مئات آلاف اليوروهات إلى المقلب الآخر من الأرض، عن طريق عميل ومقابل عمولة زهيدة. وبحسب السيد حجي نجيب الله أختري، رئيس النقابة المحلية للصرافين، يمر هنا يوميا ما مقداره 4 ملايين يورو تقريبا، ويقوم النظام على الثقة: فالصيرفي يعرف زبائنه أو كافليهم.
ريالات سعودية
منذ عام 2004، تحاول الدولة تسجيل هؤلاء العملاء والحصول منهم شهريا على تفاصيل معاملاتهم. هكذا يذكر أختري، الجالس تحت تلفاز يبث فصلا من مسلسل الرسوم المتحركة الأميركية "توم وجيري"، بأن "عشرات عملاء المخابرات يدخلون إلى هنا يوميا" ويدققون في دفاتر الحسابات. إلا أن سوق قندهار الناشط جدا يبقى بعيدا عن عيون المفتشين بسبب غياب الأمن، ذلك أن قسما لا يستهان به من أموال طالبان يمر عبر نظام "الحوالات" هذا.
وقد سجلت وحدة الاستخبارات المالية في المصرف المركزي عبور 1.3 مليار دولار بأوراق نقد سعودية في البلاد منذ يناير 2007. فبحسب رئيسها الشاب مصطفى مسعودي، "يظهر هذا المال في المناطق القبلية الباكستانية. فبالله عليكم أخبروني من يحتاج إلى ريالات سعودية هناك؟ فمن بيشاور (شمال باكستان)، ترسل هذه الأموال عبر الحوالات إلى كابل، حيث يتم تبديلها إلى دولارات. من ثم تسلك الدولارات طريق التلال، فيما ترحل الريالات إلى دبي، بكل شرعية، عبر المطار".
ويجب الاستماع إلى اللواء محمد آصف جبار خيل، المسؤول عن أمن مطار كابل، يصب جام غضبه على القانون الذي يسمح لأي كان بأن يستقل الطائرة ومعه الملايين نقدا، شرط التصريح عنها. وفي دبي، تغض السلطات أيضا النظر حول أصل الأموال المنقولة منذ وصول تبعات الأزمة الاقتصادية إليها عام 2009. هكذا يقدر أحد الرسميين الأميركيين بأنه قد تم نقل أكثر من 1.75 مليار يورو إلى الإمارات العربية عبر مطار كابل، العام الماضي. والملفت وفقا لمسعودي أن عشرة أشخاص بالكاد، من عملاء "الحوالة" في أكثريتهم، هم الذين يؤمنون انتقال الجزء الأساسي من هذه الأموال. يعرض اللواء جبار قائمة، وقد خط بإصرار تحت أسمائها، إذ تظهر حجم المبالغ: 360 مليون يورو لشخص واحد عام 2009، 69 مليونا لعميل آخر، إلخ...
حلقة مفرغة
ليس كل هذا المال مرتبط بحركة طالبان. فبعض المبالغ شرعية، وأخرى تمثل جزءا من المساعدات الدولية التي يحولها الرسميون لمصلحتهم، فيما يعود قسم آخر إلى تهريب المخدرات، البعيد عن كونه محصورا بالمتمردين. هكذا تدل رزم الأموال المغلفة بالبلاستيك والمحملة في مستودعات الحقائب في طائرات شركة "أريانا" الأفغانية على الصعوبة التي تلاقيها الدولة في السيطرة على أموالها. فقد بلغت العائدات الجمركية للعام الماضي 636 مليون يورو فقط، بينما كان بإمكان الإدارة تحصيل ضعف هذا المبلغ. ولا يستطيع رئيس الجمارك، سعيد مبين شاه، نائب الوزير الشاب صاحب الإرادة الحسنة، الوصول إلى بعض نقاط الحدود، إذ يتساءل حول من يمكنه أن يحميه من الشرطة ذاتها (!). فكثير من الضباط يقومون بمهمات التحصيل الجمركي، ولكن لحسابهم الخاص.
هكذا في نقطة سبين بولداك في مقاطعة قندهار، يفضل مبين شاه المواكبة الأبوية لأحد أمراء الحرب المشتبه بتواطئه مع طالبان... حتما ستقولون إن الأمر يدور في حلقة مفرغة.
من يملأ جيوب الملا عمر؟
ردا على سؤال "من يملأ جيوب الملا عمر؟"، يأتي الجواب غالبا في كلمة واحدة: الأفيون. ولكنه لا يمثل، وفق تقرير نشره مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة نهاية 2009، سوى ما بين 10 و15 في المائة من إيرادات طالبان (من الخوات والتهريب).
* بالترتيب مع لوموند ديبلوماتيك