محمود عباس المتفائل بحذر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الرميحي
اليوم الخميس، الثاني من سبتمبر (أيلول)، تبدأ المباحثات الفعلية والتاريخية، بين بنيامين نتنياهو، ومحمود عباس في واشنطن، بعد طول أخذ ورد وانتظار، وهي خطوة في مسيرة طويلة للبحث عن السلام.
أعود إلى الماضي قليلا. في مايو (أيار) عام 2004 حضر أبو مازن إلى الكويت للمشاركة في ندوة نظمتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأمة الكويتي بمبادرة رئيسها وقتذاك، محمد جاسم الصقر، وكانت بعنوان "حوار حول الخليج والجوار". وفي صحبة صديق فلسطيني ناشط، انتقل إلى رحمة الله، هو المرحوم توفيق أبو بكر، ذهبنا للقاء السيد أبو مازن في مقر إقامته في فندق "شيراتون" حيث مقر الندوة. وقتها كان أبو مازن في الظل، إلا أنه كان ظلا ينبئ بقرب دخوله من جديد إلى وسط العمل السياسي الفلسطيني الفعال وكانت له رؤية، فقد تحدث عن وجهة نظر أخرى مختلفة عن السائد. أبو مازن وقتها كان غير متفائل بمسيرة العمل الفلسطيني القائم وكان يبحث عن مخرج للأزمة المستعصية بينه وبين القيادة الفلسطينية وقتها على المستوى الشخصي، ويبحث عن مخرج للطريق المسدود الذي أوصل الرئيس عرفات إلى شبه اعتقال في مقره في رام الله. في الندوة تحدث أبو مازن حديثا علنيا حول رؤيته لمستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وأعطى رؤيته عنوانا هو "المعادلة المركبة" وأبرز أبو مازن خطته أو تصوره للمستقبل في ثلاثة مستويات، وأنا أنقل هنا من الورقة المكتوبة التي وزعت في الندوة.
أولا: وقف العمليات العسكرية "الفلسطينية" لإشاعة الهدوء والاستقرار.
ثانيا: توحيد أجهزة الأمن "الفلسطينية" في إطار واحد، وتحت قيادة واحدة وسلطة واحدة.
ثالثا: بناء سلطة القانون من خلال الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإشاعة الديمقراطية باعتبارها الأساس للمحافظة على المشروع الوطني الفلسطيني.
كانت تلك التصورات شبه غائبة - في نظر أبو مازن - عن التصور الفلسطيني القائم وقتها. بعد انعقاد الندوة بأشهر قليلة، انتقل المرحوم ياسر عرفات إلى جوار ربه، في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 2004. وتسلم الرئيس محمود عباس القيادة الفلسطينية، على ما هي عليه من شقاق. بر محمود عباس بجزء من خطته التي عرضها في الكويت، وأقام انتخابات، فازت فيها، بأغلبية ملحوظة، قوى حماس المعارضة، التي ترفض فكر المنظمة كليا للسير باتجاه البحث عن سلام ما مع الإسرائيليين. مرت كثير من المياه بعد ذلك تحت جسر سلطة محمود عباس في السنوات الست اللاحقة لعرض "المعادلة المركبة"، معظمها معروف حتى "انفصال حماس" في "جمهورية غزة" عام 2007، وما تلاه من شقاق وحروب. إلا أن صلابة محمود عباس السياسية لم تهن، فقد سار في طريق ما أعلنه في الكويت قبل أعوام، مع كل التضحيات الشخصية التي نالت منه، بل حتى من سمعته، ومع كل الضغوط التي تعرض لها.
اليوم يدخل أبو مازن في مفترق طريق آخر؛ الجسم الفلسطيني ليس موحدا، ليس فقط بسبب مواقف حماس والجهاد وبقية الممانعين لتوجهات عباس، بل ومن خلال انشقاق بعض الرفاق حتى في فتح. إلا أن شجاعة أبو مازن مشهودة، بعد أن استوعب الدروس التاريخية التي مرت بها القضية، والتي على أكتافها برزت شخصيات وانهارت حكومات، وظل الفلسطيني البسيط يدفع ثمنا غاليا من دمه وحريته وعيشه وكرامته، كل يوم يمر وهو تحت الاحتلال أو الحصار. عباس اكتشف كما اكتشف غيره - دون إعلان - أن المزايدة واحدة من أهم عوامل الخسارة في القضية الفلسطينية منذ أن بدأت؟
الدروس كثيرة، لعلي أذكر كتاب دينيس روس المعروف بـ"السلام المفقود: خفايا الصراع حول السلام في الشرق الأوسط" وهو، أي المؤلف، خبر الكثير من الأسرار، كونه مبعوثا لبلاده في الشرق الأوسط لاثنتي عشرة سنة متتالية، وهو الآن مستشار للسيد باراك أوباما حول المنطقة. يقول روس إن هناك أخطاء كثيرة وقعت أثناء المسيرة الطويلة لمحاولات إحلال السلام؛ منها أن "الحقائق" التي يعترف بها العرب سرا لا يريدون أن يعلنوا عنها جهرا، وهي بالمثل لدى الإسرائيليين، فهناك حقائق يعترف بها الإسرائيليون سرا، ولا يعلنونها جهرا. إن الفرص الضائعة في مسيرة القضية تفتتت وتذررت لتذوب القضايا الرئيسية في بحر الفروع التي تضخمها المزايدات. ذلك ما يجعل الطرفين يبتعدان عند الاقتراب من "اتفاق". باختصار هي "النيران الصديقة" التي يطلقها بعض من صفوف الفريقين، في حال اقترابها من سلام، مما يقوي منطق المزايدة الذي تعتمده المعارضة رفضا للاستسلام في مفهومها. القوى المعارضة لأي اتفاق - في الطرف الإسرائيلي - ليست هينة أو بسيطة، فهي قوى ومنظمات وأحزاب ليس من مصلحتها الوصول إلى اتفاق سلام. وبالمثل هناك قوى وأحزاب ومنظمات فلسطينية وأيضا عربية وإقليمية، لا تريد أن يصل قطار السلام، لأسباب خاصة بها، إلى محطته الأخيرة.
مع هذا التشابك الخطر، يقف الطرفان اليوم أمام متغيرات دولية وإقليمية مختلفة ومتجددة لينظرا في ملف معقد وشائك استنزف من العالم كل الجهد والطاقة، وخلف وراءه العديد من الضحايا وأنتج حروبا وكوارث، مباشرة أو مداورة، وما زال يفعل. أبو مازن اليوم أكثر ما يحتاج إليه هو التعضيد في مهمته التاريخية التي آمن بها في "المعادلة المركبة"، وهو الذي قال مؤخرا بأن المحادثات يمكن أن تفشل، إلا أننا قد قمنا بما يتوجب علينا القيام به. فمحمود عباس يعمل من داخل قناعاته لا من خارجها، وهي صفة قيادية تحسب له لا عليه. من هذه الزاوية، وحسب ظروف وواقع القوى المختلفة المشتبكة في الصراع، يلتفت أبو مازن إلى أهمية الوقت، فقد عرف وعرفنا أن الوقت ليس بالضرورة ممكن أن يعمل لصالح القضية.
فكروا في الستين عاما الماضية لنتعرف على وجه اليقين إلى أين يأخذنا الوقت.