وسطيــــــة الإســــــلام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالحميد الانصاري
إذا كان لكل دين ما يميزه فتميزت " اليهودية " بالشدة وتميزت " المسيحية " باللين والتسامح فإن الإسلام دين الوسطية والإعتدال، لأنه دين شامل ولأنه آخر الأديان السماوية، الوسطية والاعتدال سمتان رئيسيتان في كافة تشريعات وأحكام الإسلام وفي شؤون الحياة المختلفة، يقول الله تعالى : "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس"، أي ان هذه الشريعة بأحكامها المتوازنة والملائمة لطبيعة الإنسان وما ينبغي أن يكتمل به ويسمو إليه، من شأنها أن تهيئ وتكون أمة خيرة لها طابع الإعتدال والوسطية.
ولعل من أوائل من كتبوا و نظروا للوسطية، الشيخ محمد محمد المدني رحمه الله تعالى في كتيب صغير لكنه نفيس أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر 1961 بعنوان " وسطية الإسلام " احتوى الكتاب على تعريف الوسطية و مظاهرها المختلفة في شؤون الحياة و المجتمع، الوسط في اللغة العربية اسم لما بين طرفي الشيء، وأوسط الشيء أفضله وخياره، وفي الحديث " خيار الأمور أوساطها " وواسطة العقد هي الدرة في وسطها، والوسط يأتي في المعاني المعقولة وفي الأشياء المحسوسة، وكل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، وقد مدح الله التوسط وذم التطرف والإنحراف والخروج عن الجادة " ومن الناس من يعبد الله على حرف " نجد مظاهر الوسطية الإسلامية في العديد من المجالات : في أنفاق المال لا إسراف ولا تقتير " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " وفي مجال العبادة طلب الإسلام القصد والاعتدال فلا غلو وإهمال " هلك المتنطعون " " إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ونهى الرهط الذين أرادوا التبتل والانقطاع بقوله صلى الله عليه وسلم " إني أخشاكم الله وأتقاكم له، لكني أصوم و أفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " وفي الحديث الآخر " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " يؤكد القرآن الكريم في العديد من آياته بأنه لا يريد العنت بالعباد ومع رفع الحرج عن الناس ولذلك كانت أوامره وتكاليفه مقيدة بالإستطاعة، يستعرض المؤلف مظاهر الوسطية في الإسلام : في المزاوجة في طبيعة الإنسان بين روح وجسد وفي الإعتراف بفطرته وميوله وعواطفه وفي بساطة العقيدة والإيمان بالقضاء والقدر، كما يتجلى منهج الوسطية في اللباس والزينة والطعام و الشراب والطيبات من الرزق عامة في أنه : لا تحريم لما أخرج الله لعباده ولا إسراف ولا إلتماس لغير الطيبات ولا تحرج من تطلب المتاع الحسن من وجوهه المشروعة .
ولا بأس بالتنافس في سبيل التقدم والرقي بما يرفع من مستوى البشر وبما يحقق سموهم الروحي وكمالهم الخلقي، من يسبر تعاليم الإسلام وتشريعاته يجد " الوسطية " هي الملمح الأبرز في كافة أوامره ونواهيه، فالقصاص عقوبة عادلة بين الثأر وإلغاء الإعدام، و الطلاق إذا استحالت العشرة خير من رباط أبدي مساوئه أكثر من محاسنه وهكذا نجد التوازن الحكيم بين الدين و الدنيوي والمادي والروحي في قوله تعالى " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " وفي قوله تعالى " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة " " نعم المال الصالح للعبد الصالح " في الوقت الذي تشجع فيه الفلسفة الرأسمالية الغربية على الحرص على مباهج الحياة واستنزاف ملذاتها وجمع المال بأي طريقة وبأسرع طريقة لتصبح مليونيراً كغاية قصوى وفي مقابل هذه الفلسفة نجد فلسفات الهند وجنوب شرق آسيا التي تدفع الفرد إلى الزهد والمسكنة و تحبب إليه تعذيب النفس وحرمانها، لا المنهج الغربي الذي يقدس الجانب المادي ولا المنهج الشرقي الذي يغالي في الجانب الروحي، أمران محمودان في المنهج الإسلامي الوسطي، يقول الله تعالى " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " " خلق لكم ما في الأرض جميعاً، فلا يحل لإنسان أن يحرم شيئاً إلا بدليل قاطع، ومن أجمل مباحث الكتاب حديث المؤلف عن تنوع أساليب الشارع الحكيم في الميادين الثلاث : العقائد والعبادات والمعاملات، نجد أسلوب الشارع في العقائد أسلوب المخبر الواصف، وفي العبادات أسلوب المنشئ المجدد، أما في المعاملات فهو أسلوب الناقد المهذب، فقد جاءت الشريعة ووجدت صوراً للتبادل و التعاون والتعامل بين الناس فكان موقفها موقف الإقرار لبعضها و التعديل للبعض الآخر والإلغاء لما خرج عن حدود العدل، لذلك وضع العلماء في ميدان العبادات قاعدة : لا يعبد الله إلا بما شرع ، لكن في جانب المعاملات وضعوا قاعدة عظيمة " المعاملات طلق حتى يرد المنع " يقول ابن القيم " الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم " هذا هو الإسلام دين الوسطية والاعتدال و رسولنا " رحمة مهداة " وتعاليم الإسلام كلها قائمة على الوسطية و التوازن : بين حقوق الفرد والمجتمع، بين أشواق الروح واحتياجات الجسد، بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بين تنمية المجتمع وابتغاء الثواب الأخروي ، بين ثوابت الدين ومتغيرات العصر.
وتبقى تساؤلات مرة : إذا كانت الوسطية هي الطابع العام لشريعتنا و الملمح الأبرز في تعاليمها، فلماذا لم نفعل ثقافة الوسطية في مجتمعاتنا ؟ لماذا لن نترجم قيم الوسطية والتسامح وقبول الآخر ونجسدها في سلوكياتنا و مواقفنا وعلاقاتنا بعضنا ببعض و بالآخر ؟! لماذا لم ننجح في تعزيز ثقافة الوسطية في نفوس أبنائنا لحمايتهم من أمراض التطرف والغلو ؟! لماذا أخفقت طروحات الوسطية و الإعتدال في تحصين شبابنا وتقوية مناعتهم تجاه فكر الغلو والتشدد ؟ لماذا تنامى واستشرى مد الغلو والتطرف ؟ أينما وحهت ناظريك على امتداد الساحة الإسلامية رأيت تفجيراً و تدميراً وقتلاً ؟ أكتب عن وسطية الإسلام وأصوات التفجيرات تهز العالم الإسلامي شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً ، والضحايا الأبرياء بالآلاف، أين الوسطية ما يحصل في عالم الإسلام ؟!
هؤلاء القتلة المخربون - خوارج العصر - لم يراعوا حرمة هذا الشهر الفضيل وانتهكوا كافة المقدسات، يدخل أحدهم مسجداً عامراً بالمصلين فيفجر نفسه فيهم ويتفاخر بالجهاد والشهادة، هؤلاء أضل سبيلاً من عرب الجاهلية الذين كانوا يتقاتلون لكنهم احترموا الأشهر الحرم فكفوا عن القتال، لكن خوارج عصرنا أشد دموية وعدواناً ! نتحدث كثيراً عن الوسطية ونعقد حولها مؤتمرات وننشئ مراكز للوسطية ونرصد الموازنات الضخمة لترويج فكر وطروحات الوسطية، لكن عالم المسلمين بعيد عن الوسطية و قيمها، نتغنى بالوسطية كثيراً وكل الأطراف والأطياف والجماعات الدينية تدعيها ونسمع في الأخبار أن العاصمة الكينية نيروبي تحولت إلى حاضنة للجهاديين القتلة، وفي جنوب اليمن يتناسل المجاهدون فينشق المجاهدون الصغار عن القدامى ليشكلوا جماعات أكثر تشدداً وعدوانية، فأين الفكر الوسطي ؟! ستظل الوسطية "شعاراً" كبقية الشعارات : التسامح، قبول الآخر، الشورى، الديمقراطية، مادامت البنية التحتية للفكر العنيف نشطة !