لبنان يتراجع عن جمع السلاح لمصلحة إباحته
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سليم نصار
مطلع شهر حزيران (يونيو) 1990، استقبل الرئيس ميخائيل غورباتشيف سفير لبنان محمود حمود الذي جاء ليودعه ويبلغه عن انتهاء مهمته في موسكو.
افتتح غورباتشيف اللقاء بالحديث عن العنف الذي رافق عملية تفكك الاتحاد السوفياتي عقب انهيار جدار برلين، ملمّحاً إلى دوره في نشر مناخ التحرر للجمهوريات التي ضمها ستالين بالقوة. ثم انتقل فجأة ليتحدث عن مخاوفه من "لبننة" روسيا، ومن مخاطر تفشي نموذج الحرب اللبنانية التي استمرت مدة خمس عشرة سنة في نشر الفوضى والدمار.
ولما أعرب السفير حمود عن استغرابه لتأثر المجتمع الروسي بما يحدث على الساحة اللبنانية، ذكّره وزير الخارجية إدوارد شيفارنادزه الذي حضر اللقاء، بحادث إطلاق الصواريخ في محيط السفارة السوفياتية في بيروت، وكيف اضطرت موسكو للاستنجاد بميليشيات وليد جنبلاط عندما عجزت الدولة اللبنانية عن صد المهاجمين.
ولمّح غورباتشيف في نهاية اللقاء الى الآثار السلبية التي نُقلت عن عنف الحرب اللبنانية، بما فيها صور لاعبي الغيتار فوق جثث ضحاياهم. وكان بهذه الملاحظة يشير الى عمق الجراح التي خلفها قتال الميليشيات الذي أوجد نمطاً من العنف الدموي حصد أكثر من مئة ألف نسمة ودمر العاصمة وسائر المدن والقرى.
والمؤسف ان الصور المرعبة التي ذكرها غورباتشيف ظلت عالقة في أذهان الإعلاميين الذين أعادوا إنتاجها بطرق مؤذية لسمعة لبنان واللبنانيين. وهذا ما دفع سفير لبنان في لندن اللواء أحمد الحاج الى إصدار بيانات تصحيح تسوّق فكرة العيش المشترك وتقديم لبنان كنموذج لصهر 18 طائفة في بوتقة وفاق العقد الاجتماعي.
وقد أكدت المؤلفات التي صدرت عن الحرب اللبنانية الأخيرة، انها ليست أكثر من نموذج مكرر لحرب 1840 وحرب 1860 يوم بقيت الجثث في دير القمر وزحلة مرمية في الشوارع مدة تزيد على الشهر. كذلك أثبتت انهيارات الدولة عام 1975 أن تفسخ الجيش عقب انفصال ثكنة حمانا عن مركزية الجيش النظامي وحركة التمرد التي قادها أحمد الخطيب، كانا المشجع على ولادة نظام الميليشيات. ومع اختفاء مظلة الحماية والوقاية وكل ما توفره هيبة الدولة من قانون وردع، ازدادت عمليات شراء الأسلحة التي كانت تنقلها بواخر الشحن الى مرافئ جونيه وصيدا وصور، إضافة الى صفقات الأسلحة التي نُقلت الى المرافئ الخاصة في الضبية وسواها. وخلّف عدد الضحايا الكبير أثراً مفجعاً في الحياة العامة اللبنانية، السياسية منها والاجتماعية والثقافية، وولد اتفاق الطائف من المعاناة المشتركة بين ابناء الوطن الواحد.
وفي وثيقة الوفاق الوطني التي صاغها النواب، حرصوا في الطائف على "قيام الدولة القوية والقادرة" من خلال بسط سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، ورسموا لها بعض الخطوط العريضة أهمها: حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية (أي الفلسطينية) وتسليم أسلحتها الى الدولة خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية.
وبما أن الإصلاحات السياسية لم تتم بحسب المواصفات السياسية... وبما أن "حزب الله" لا يصنّف نفسه ولا تصنّفه سورية في عداد الميليشيات، فقد اقتصر جمع السلاح على الأحزاب والمنظمات الأخرى. ثم جاءت حرب صيف 2006 لتثبت ان "حزب الله" يستحق المعاملة الاستثنائية التي لقيها من جانب طائفته والطوائف الأخرى. وبقي يعامل بحسب منزلته، الى ان أدار سلاحه في أحداث 7 أيار 2007 نحو المواطنين من السنّة والدروز. وفي ضوء تلك الواقعة، بدأ الحديث عن ضرورة احتواء قوات "حزب الله" داخل الجيش النظامي، لأنه استخدم سلاحه في غير موضعه.
مرة ثانية استُخدم هذا السلاح ضد جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش)، الأمر الذي استدعى تدخل سورية لحسم الإشكال على طريقة "لا غالب ولا مغلوب". ومع ان قيادة "حزب الله" تحتفظ لنفسها بالأسباب الحقيقية التي قادتها الى ضرب جمعية "الأحباش" بعصا الطاعة، إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس سعد الحريري من المطالبة بمنع السلاح، ومن ثم بجمع السلاح!
أكد الحريري بعد رجوعه من دمشق أن لبنان لن يكون ساحة مواجهة بين أبنائه. ثم كرر هذا الكلام امام اللجنة الوزارية المكلفة معالجة ظاهرة انتشار السلاح بين المواطنين في بيروت وسائر المناطق. وحاول بالتعاون مع وزير الدفاع الياس المر ووزير الداخلية زياد بارود، إيجاد حلول مجدية يرتاح لها الشعب ويطمئن الى نتائجها. وبعد التشاور مع الرئيس ميشال سليمان، تقرر عقد اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع بهدف مناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها من اجل مساندة قوى الأمن الداخلي.
يُجمع المراقبون على القول ان اتفاقي الطائف والدوحة وفرا هدنة موقتة بين اللبنانيين، ولكنهما لم يوفرا الاستقرار المطلوب لإنهاء حال الحرب. ومعنى هذا ان عوامل الكراهية ورواسب الحقد لا تزال مخزونة في النفوس والعقول. لذلك، فهي تطفو على سطح الأحداث كلما ضعفت قبضة الدولة أو اهتز ميزان الاستقرار الداخلي.
وفي تاريخ الولايات المتحدة حقبة سوداء (1861 - 1865) عرفها الأميركيون اثناء الحرب الأهلية التي حصدت 620 ألف نسمة، أي بنسبة 2 في المئة من عدد السكان. ومع ان الرئيس ابراهام لينكولن حسم الأمر لمصلحة الوحدة والنظام والقانون، إلا ان كوابيس الذعر التي خلفتها الحرب لم تمنع المواطنين من امتلاك السلاح بهدف حماية انفسهم وعائلاتهم. وعليه نرى ان غالبية الولايات تجيز شراء السلاح واقتناءه. كما نرى ان الدولة الفيديرالية لم تستطع إصدار قانون يمنع حمل السلاح في كل الولايات على رغم انقضاء أكثر من قرن ونصف القرن على الحرب الأهلية. ومن المؤكد ان إباحة امتلاك السلاح ساعدت على ظهور الميليشيات المسلحة. وتقول الصحف ان الدولة أفشلت ستين عملية إرهابية في عهد كلينتون. ويؤكد تقرير صادر عن البيت الأبيض عودة الميليشيات المسلحة بعد انتخاب أوباما. وهناك نحو خمسين منظمة مسلحة تطالب بانفصال الولايات عن الاتحاد. كل هذا بسبب ضعف قوة الدولة المركزية ونشوء ميليشيات عنصرية متطرفة تسعى الى احتلال مواقع الدولة.
بعض نواب لبنان طالب بضرورة اقتباس القوانين السويسرية المتعلقة بموضوع حمل السلاح أو امتلاكه. وعندما يبلغ الشاب السويسري سن الثامنة عشرة، ترسل له الدولة المركزية الاتحادية رسالة تذكير بأهمية ممارسة الخدمة العسكرية. وتقضي هذه الخدمة منه بالالتحاق لمدة شهر بكتيبة المدرعات أو المشاة أو أي سلاح آخر. وعندما يبلغ الثلاثين من عمره تنخفض نسبة التدريب الى دورة واحدة كل سنتين.
وبسبب حال الاستنفار الدائمة، يمكن المتدرب الاحتفاظ بسلاحه في منزله شرط ألا يستخدمه ضد أحد. وبسبب روح الانضباط، يعتبر الاحتياطي السويسري من أقوى الجيوش وأسرعها تعبئة بحيث انه يتفوق على الإسرائيلي في هذا المجال. أي انه يستطيع الالتحاق بثكنته خلال ست ساعات فقط.
واللافت أنه طوال الثلاثين سنة الماضية، لم يحدث أن استُعمل سلاح الدولة السويسرية ضد مواطنين آمنين سوى ثلاث مرات. وكانت هذه المرات الثلاث كافية لتشجيع نواب الكانتونات على المطالبة بسن قانون يمنع الاحتفاظ بالسلاح في المنازل. ولكن الاقتراح سقط.
وسبب رفض الاقتراح يعود الى الحجة الدامغة التي تقول ان الحق في هذا ليس على وجود البندقية في البيت، بل على نية الشخص الذي يستخدمها لاقتراف جريمة بدلاً من الدفاع عن السيادة الوطنية. ومن هذا المنطلق، تعتمد الدولة السويسرية على حسن تنشئة رعاياها وحسهم الوطني، الأمر الذي يمنع انتهاك القوانين ويحول دون استخدام سلاح المقاومة لتصفية حسابات شخصية.
وفي بريطانيا، تحظر قوانين الأمن على الشرطي حمل أي سلاح غير الهراوة. ويُستثنى من هذا القانون حراس المطارات والسفارات لأسباب تتعلق بأعمال إرهابية سابقة. وفي نهاية كل سنة تدل نتائج استطلاعات الرأي على ان الشرطي غير المسلح هو الأكثر احتراماً بين كل موظفي الدولة.
السؤال الذي تواجهه الحكومة اللبنانية يتأرجح بين موقفين: هل من الأفضل جمع السلاح من كل المواطنين، أم منعهم من اقتنائه؟
في الاقتراح الأول ستضطر الدولة الى الدخول في ورطة جديدة تقودها الى جمع السلاح من كل اللبنانيين باستثناء سلاح "حزب الله". وهذا بالطبع يكشف عن مدى عجزها عن معالجة هذه المسألة الحساسة.
أما بالنسبة الى الاقتراح الثاني، فإن قرار منع السلاح سيعرّض القوات النظامية الى الاشتباك مع الأحزاب والمنظمات التي تحتاج الى حماية نفسها ما دامت الدولة غير قادرة على حمايتها من تسلط "حزب الله".
وأمام هذا الوضع المقلق، لا بد من ان تستسلم الحكومة للأمر الواقع، وترضى بسلاح "حزب الله" المؤهل لحماية السيادة الوطنية. كما ترضى كذلك باقتناء السلاح الخاص من جانب مواطنين تعجز الدولة عن حمايتهم. وهي في الحالين تجد الوقت الكافي لإقناع المواطنين بأنها تعمل من اجل سعادتهم وأمنهم.