مقامرات أميركا المتراجعة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله خليفة الشايجي
تبدو الولايات المتحدة الأميركية كالمقامر الذي يمنِّي النفس بتحقيق أي ربح أو انتصار بعد أن عانى لفترة طويلة من الخسائر والنزيف، وتراجُع الإمكانيات والقدرات. ولذا نراها تتحرك الآن لأغراض ودوافع ربحية على الجبهة الداخلية في سنة انتخابات مصيرية تقرر من سيسيطر على الكونجرس خلال العامين القادمين مما تبقى للرئيس أوباما في البيت الأبيض، وهي فترة ستقرر مستقبل أوباما نفسه، وفرصه فيما إن كان سيصبح رئيساً لفترة واحدة فقط كسلفه "الديمقراطي" كارتر، أم أنه سيحظى بفرصة الرئاسة لولايتين مثل سلفه الآخر كلينتون. ويحدث هذا الفتور أيضاً بسبب تراجع حماس أميركا وناخبيها تجاه الانخراط في الخارج عموماً والتضحية بالمال والجنود في حروب مكلفة تخاض في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، وقد تكلفت أميركا خسائر تجاوزت التريليون دولار على حروبها في الخارج، وتريليون مثلها على برامج التحفيز الاقتصادي، دون أن تحقق نتائج إيجابية، دع عنك انتصارات، في أي من الحروب الثلاث، أو في تعاملها مع تداعيات الأزمة المالية العالمية التي ما زالت تلقي بظلال من الشك على مصير "الديمقراطيين" ورئيسهم. ومع ارتفاع نسبة البطالة إلى 10 في المئة، وحروب شارك فيها مليون جندي أميركي خلال العقد الماضي، وأدت إلى مقتل 5000 عسكري والنزيف البشري والمالي لا يزال مستمراً، فلا مجال للحديث عن شهية الانخراط أو الالتزام خارج الحدود.
ولذا فلا عجب إذن أن يعزف الناخب الأميركي، المهموم بشأنه الداخلي ووضعه الاقتصادي، عن الشأن الخارجي كلية بما فيه من الحروب والخسائر المالية والبشرية. ولا عجب أيضاً أن تبدو أميركا أكثر تراجعاً وانكفاءً بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على الشأن المالي والشعبي في الداخل وعلى السياسة الخارجية وما قد يترتب عليها من التزامات في القادم من السنوات.
وهذا كله سيرتب على الإدارة الأميركية الحالية وعلى الإدارات القادمة المزيد من التراجع عن الالتزامات الخارجية، وسيغير إلى حد كبير الدور العسكري والأمني الأميركي كشرطي عالمي ورجل إطفاء دولي! وسيغير معالم السياسة الدولية في النظام العالمي استطراداً، حيث سنشهد المزيد من التغير في طبيعة الدور العسكري والأمني الأميركي في المستقبل.
ويبدو الآن الارتباك واضحاً على حركات أميركا المتأخرة على رقعة الشطرنج على خطوط الصدع الأربعة -العراق وعملية سلام الشرق الأوسط وإيران وأفغانستان- باكستان. وما يعقد التحركات الأميركية أكثر هو التشابك بين هذه الملفات المعقدة والحروب الثلاث التي تخوضها واشنطن على رقعة شطرنج المنطقة، ومحاولاتها الواضحة لوقف النزيف المستمر على كافة الجبهات. وقد رأينا الإعلان عن إنهاء حرب أميركا في العراق على رغم استمرار حالة الشلل السياسي والمخاوف من انزلاق بلاد الرافدين إلى حرب أهلية. وقد تحدثت في مقالة الأسبوع الماضي في هذه المساحة عن "الفجر الكاذب" الذي يصبغ الدور الأميركي الجديد في العراق مع إنهاء العمليات القتالية الأميركية، وتغيير طبيعة المهمة الأميركية في بلاد الرافدين، معطوفاً على ذلك خطاب أوباما الذي ألقاه من البيت الأبيض عن صعوبة الأوضاع في العراق والتزامه بوعوده بإنهاء العمليات العسكرية، فيما كان هو ووزيرة خارجيته يتحضران للمفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي لا يُعلق أحد أمالاً على نجاحها في ظل المناخ الحالي بوجود حكومة إسرائيلية فيها عتاة المتطرفين إيديولوجيّاً وغير مستعدة لتقديم تنازلات، من الأساس. هذا ناهيك عن الانشقاق الفلسطيني- الفلسطيني وغياب مرجعية واضحة للمفاوضات في حراك بلا بركة، في سنة انتخابات أميركية حاسمة يكون فيها الرئيس الأميركي وحزبه عادة في موقع الدفاع والتراجع!
لا أمل إذن، على رغم حملة العلاقات العامة والحضور الاستعراضي لخمسة زعماء في البيت الأبيض، في تحريك عملية السلام التي وصفت من قبل مسؤولين مختلفين بـ"الجثة المحنطة"، إذ إن ما سنشهده هو إعطاء انطباع عن حراك وانخراط وممارسة أميركا لدورها القيادي في منطقة علمتنا تجارب التاريخ أن فرص الفشل أكثر فيها بكثير من فرص النجاح.
وقد يكون أيضاً لانتقادات المؤسسة العسكرية الأميركية النافذة خلال هذا العام وامتعاضها من سياسة إسرائيل ومواقفها المتصلبة أثر محسوس في توجهات واشنطن، وخاصة أن التعنت الإسرائيلي يؤثر سلباً على المصالح الأميركية وحتى على حياة الجنود الأميركيين في مسارح القتال، كما أشارت إلى ذلك المؤسسة العسكرية الأميركية، التي نبهت أيضاً إلى استغلال الاصطفاف والانحياز الأميركي من قبِل خصوم واشنطن مثل إيران و"القاعدة". وكل هذه الضغوط قد تساعد على تفسير هذا الحماس الأميركي للانخراط في مقامرة جديدة كتلك التي حاول من قبل كلينتون أن ينجزها، بهدف التوصل إلى سلام دائم بين الأطراف المتناحرة.
ولا يمكننا أيضاً إغفال تشابك الملفات الشائكة الأخرى وتداخلها، والفكرة السارية بأن حل أزمة الشرق الأوسط المستعصية سيساعد على تحقيق انفراجة كبيرة في المنطقة، وحلحلة الكثير من العقد والملفات، وسحب البساط من خصوم واشنطن الذين يستغلون ويوظفون القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي ضد أميركا وحلفائها بهدف كسب ود وعقول وقلوب الشارع العربي، حيث ظلت استطلاعات الرأي الأميركية نفسها تثبت على الدوام خلال العقود الماضية أن السبب الرئيسي لكراهية أميركا في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، والسبب الرئيسي اليوم لتراجع شعبية أوباما والشعور العام بحالة الإحباط وخيبة الأمل تجاهه، هو تحديداً وقوف أميركا أوباما مثل أميركا الرؤساء الأميركيين السابقين الموقف نفسه ضد الحق الفلسطيني، إضافة إلى استمرار الدعم السياسي والمالي والعسكري لإسرائيل، واعتبارها فوق القانون! والسكوت عن ترسانتها النووية وخرقها للقانون الدولي ومواصلتها لسياسة الاستيطان ودعم عنصرية ويهودية الدولة! ولاشك أن استمرار الانحياز الأميركي الكلي لمصلحة الدولة اليهودية واستخدام "الفيتو" لحماية أمنها، أحبط الشارع العربي الذي علق وراهن كثيراً على أوباما معتقداً أنه سيحدث "التغيير".
ولا حاجة للتذكير أيضاً بأن التشدد تجاه إيران والتخبط في أفغانستان لا يساعدان الاستراتيجية الأميركية، في وقت لا توجد فيه قوى بديلة قادرة على حمل الراية أو ملء الفراغ ولعب الأدوار التي كانت تضطلع بها أميركا.
إن ما نراه الآن هو أعراض ما يسمى "وهن القوة". فأميركا بدأت تفقد الزخم والأرضية التي تؤمِّن المال والدعم الشعبي لمهماتها، والالتزام السياسي والعسكري لسياستها الخارجية، مما يضع حدّاً لاستمرار نهج "عبء الرجل الأبيض".
ويفاقم من تراجع الدور الأميركي أيضاً صعود قوى كبرى جديدة على المسرح الدولي، واستمرار الأزمة المالية العالمية، وعجز واشنطن عن ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل لتحقيق الاختراق المطلوب في جميع ملفات المنطقة. كما أن فقدان الشجاعة على الالتزام، والانسحاب العسكري من العراق، وطغيان الشأن الاقتصادي والداخلي، وارتهان الإدارات الأميركية لحسابات انتخابية ضيقة، ستُبقي مقامرات واشنطن مرتبكة وخاسرة، وستجعلها تتراجع في الحجم والقدرات والقوة على رقعة الشطرنج الإقليمية والدولية.