حرق المصحف... مسألة ثقافية أم أمنية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
تطل ذكرى حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على مشهد مرعب سيكون له أثره في إنعاش بؤر التوتر بعد إعلان القس تيري جونز عن عزم كنيسته الصغيرة في فلوريدا على حرق نسخة من القرآن بالمناسبة. الإعلان أثار قلق الفاتيكان والبيت الأبيض ومنظمات حقوق الإنسان ومخاوف قائد القوات الأجنبية في أفغانستان ديفيد بترايوس وأدى إلى أطلاق ردود فعل تطالب بوقف هذه الخطوة الاستفزازية التي ستؤدي في حال الإقدام عليها إلى تعزيز التطرف والتعصب والإرهاب وإحراج القوى المعتدلة وما تمثله من مبادئ الانفتاح والتسامح والتعايش.
الإعلان عن حرق المصحف علناً أمام كنيسة معمدانية لا يزيد أتباعها عن 50 شخصاً يأتي في سياق انزلاقات "ثقافية" أخذ يشهدها العالم الأوروبي - الأميركي في مواجهة العالم العربي - الإسلامي. فهذه الخطوة الاستفزازية لا قيمة سياسية لها سوى إثارة المشاعر وإطلاقها في فضاء مشحون بالتوتر ويحتاج إلى آليات ذكية وواعية قادرة على احتواء العنف والسيطرة على تموجات التعصب التي تصدر عن جهات غير مسئولة أو أطراف أيديولوجية تبحث عن الشهرة أو كسب تعاطف الشارع أو تسويق كتاب أو حزب أو هيئة إعلامية.
المسألة فعلاً باتت بحاجة إلى قراءة تعيد تشكيل خطوط التماس وإعادة تعريف معنى الحرية والحق في إبداء الرأي بغض النظر عن مردوده الإنساني وتأثيره السلبي على ثقافة التعايش والتسامح والانفتاح بين المجموعات البشرية المختلفة في ألوانها وأديانها وعاداتها وتقاليدها.
السؤال الأول الذي يُطرح في السياق المذكور، هل من المعقول أن تقدم فئات صغيرة متعصبة ومتوترة على جرجرة الشعوب والدول الكبرى إلى معارك هامشية من دون وجه حق وضد إرادة الملايين، بذريعة أن الدستور يتكفل حرية التعبير عن الرأي ويمنع تدخل السلطات المعنية في وضع حد للتهور والفتن؟
الاختلاف على الجواب أعطى ذلك الهامش من الاستقلال لتلك الفئات العنصرية المتعصبة والكارهة والمتعالية والشوفينية في أن تتحرك وتقود اتجاهات تحفر الأحقاد في العقول وتحرض التطرف في كل الأطراف على النمو والتصادم في عالم أخذ يتقارب في خطوط اتصالاته ومواصلاته. الهامش المذكور يفسر لماذا تتشجع قوى صغيرة معزولة وتقدم على تصعيد أنشطتها الإعلامية وجرجرة التيارات المعتدلة إلى ساحات النقاش والفوضى عن حرية الرأي وحق الإنسان في اتخاذ الخطوة التي يريدها ويرى أنها تناسبه حتى لو أدت إلى قتل المئات من مختلف الاتجاهات.
السؤال الثاني في السياق المذكور يتعلق بالحدود النسبية للحرية. فهل هناك قواعد دستورية إلزامية تضبط حدود الرأي ونسبته كما هو حال قوانين السير وحركة المرور أم أن المسألة في الحقل الديني مفتوحة ومشرعة ولا ضوابط نسبية لحدودها؟
الاختلاف على الجواب أعطى أيضاً ذلك الهامش لنمو نزعات عنصرية تستفيد من ثغرات الدساتير لتمرير توجهات متطرفة تدفع الناس إلى التصادم والاقتتال على أرض خصبة بالعصبيات وقابلة للاشتعال كما هو حال دول "العالم الثالث".
في هذا المعنى الموتور بالجهل والتعصب والكراهية يصبح السؤال عن مدى الفارق بين "العالم الأول" و "الثاني" و "الثالث" و "الرابع" إذا كانت العوالم "سواسية" في تعاملها اللاعقلاني مع عصر يشهد نمواً متعارضاً بين نزعة "العولمة" وتقارب حركة الشعوب في تجارتها واتصالاتها وبين نزعة "التباعد" التي تثار دائماً على امتداد مساحات الثقافة وتساكن الحضارات وتعارفها.
ما هو الفارق بين عالم أول يتضارب على بناء مسجد في نيويورك، ومئذنة في سويسرا، وبرقع في فرنسا وبين عالم ثان تتحرك في داخله مجموعة متعصبة من الهندوس تندفع باتجاه مسجد تاريخي في الهند وتدمره وبين عالم ثالث في أفغانستان تتحرك من باطنه مجموعة متهورة من المسلمين وتنسف تمثالاً عملاقاً لبوذا وُجد في تلك الأرض قبل عقود من ظهور الإسلام؟
ما هو الفارق فعلاً ما بين "التقدم" و "التخلف" إذا كانت نتيجة الاختلاف السلبية واحدة وتصب في النهاية في إطار تغذية التطرف وتنمية التعصب وتصعيد بؤر الإرهاب لتقود العالم إلى صراع ثقافات وأديان وألوان لا نهاية لها؟
الإجابة فعلاً تحتاج إلى قراءة تاريخية تركز على مسألة الثقافة قبل الأمن كما فعل الجنرال بترايوس في تصريحه الذي استنكر فيه عزم القس جونز على حرق المصحف أمام كنيسته المعمدانية في فلوريدا. فالجنرال - وهذا من حقه المهني وطبيعة وظيفته العسكرية - قرأ المسألة أمنيّاً ورأى أنها تثير حفيظة "طالبان" التي تخوض حربها الخاصة في أفغانستان ضد القوات الأجنبية المحتلة.
الجانب الآخر من المسألة هو الأهم، لأن الأمن يمكن ضبطه بالقوة أما الثقافة فهي تعبير عن سلوك جمعي يحتاج إلى جهد مضاعف لاحتواء ارتداداته في حال أطلقت الغرائز من تجاويف الطبيعة الإنسانية وأعطيت فرصة مفتوحة للتعبير عن بواطنها وتموجاتها.
إعلان القس عن عزمه الشيطاني على حرق المصحف بذريعة الرد على هجمات 11 سبتمبر مسألة ثقافية (دينية) وليست أمنية، وهو في بعده التاريخي يتجاوز مناسبة كارثة وقعت حديثاً في العام 2001. فالإعلان بعيد في انفعالاته وعميق في عنصريته وكراهيته وبغضه للآخر المختلف في دينه ولونه وسلوكه.
الخطوة استفزازية في طبيعة تحديها للقانون والدستور والحرية والعدالة والمساواة والأخوة وهي رد ثقافي قاصر ومغامر على مبادئ الإنسانية والتسامح والانفتاح والتعايش بين الحضارات والتساكن بين الشعوب على أنواعها في عصر يشهد تحولات متسارعة نحو التقارب الكوني. وبهذا المعنى الثقافي الواسع والكبير والعميق والبعيد لا يمكن حصر خطوة القس في إطار الأمن والمخاوف المتأتية على انتشار القوات الأميركية في العالم الإسلامي.
الخطوة ثقافية قبل أن تكون أمنية، وهي ليست موجهة ضد الإسلام والمسلمين فقط وإنما تخاطب في تضاعيفها وتموجاتها كل الديانات والألوان واختلاف التقاليد والعادات من دون تمييز بين شعوب العوالم الأولى والثانية والثالثة والرابعة. فالمقصود الثقافي من خطوة القس الاستفزازية ليس أهانة المسلمين وكتابهم بمناسبة 11 سبتمبر وعيد الفطر فقط وإنما توجيه صفعة للإنسانية بكل ما حققته من إنجازات حضارية في تاريخها الطويل بما فيها وصول رئيس من أصول إفريقية إلى إدارة البيت الأبيض.