جريدة الجرائد

اللبنانيون في دائرة الانفعال السلبي والإيجابي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

سليمان تقي الدين

لم يقرر المعسكران السياسيان في لبنان وقف النزاع بينهما والانصراف إلى معالجة المشكلات السياسية والاجتماعية في الحوار وداخل المؤسسات . الهدنة المفروضة نتيجة التفاهم السوري السعودي تضع سقفاً للنزاعات، خاصة الأمنية، لكنها لم تنتج تسوية جديدة متكاملة تعالج عناصر التدخل الدولي الأخرى، وفي مقدمتها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وما يمكن أن يؤدي إليه قرارها الاتهامي .

التوازن الحالي في لبنان بعد اتفاق ldquo;الدوحةrdquo; الذي تلا أحداث مايو/ أيار 2008 يقوم على احتفاظ فريق 8 آذار بقوته الميدانية، أي بالسلاح وبشرعيته وبتطويع جزء من مؤسسات الدولة لذلك .

أما فريق 14 آذار فهو يحكم مفاصل السلطة التنفيذية والمسار الاقتصادي للبلد مع تشريع بعض المؤسسات الأمنية التابعة له . يحاول الفريقان احتواء الدولة كلها عبر مسار سياسي لتعزيز وتطوير التحالفات والنشاط والعلاقات، في انتظار تفاعلات الوضع الإقليمي الذي يقرر أي محور يغلب أو ترجح قوته أو خياراته . عندها يستأنف الفريقان اللبنانيان هجومهما لتغيير المعادلة في الخيارات السياسية ربما بصورة سلمية، وربما بصورة عنيفة تفترض حدوداً من الصدامات أو الانتكاسات الأمنية .

حتى هذه اللحظة قامت التسوية السورية السعودية على حفظ مصالح الطرفين وممثليهما ورموزهما رغم التغيير السياسي النسبي الذي حصل لمصلحة سوريا ودورها الشامل في لبنان . في مكان ما تحافظ سوريا على حلفائها وتزيدهم ولكنها تحتوي الطرف الآخر وتسعى لكي ينضوي في المناخ العام الذي تهمين عليه أمنياً وسياسياً . يذهب اللبنانيون غالباً أبعد مما يمكن لهم أن يقرروا فيه، يرفعون شعارات كبيرة ويطلقون وعوداً خطيرة، لكنهم يصطدمون بالسقف العربي ويفسرونه، أحياناً كثيرة، وفق رغباتهم لا وفق المصالح الفعلية والوقائع الموضوعية، الفارق الجوهري في موقع كل من الأطراف اللبنانية ومواقع الدول ومصالحها وأساليب ووسائل عملها . يستنتج اللبنانيون انقلابات في التحالفات والعلاقات الإقليمية من لحظات تمايز بسيطة أو من دبلوماسية معينة . يسقطون أوهامهم وتخيلاتهم على العلاقات الدولية المحكومة باعتبارات المصالح والحسابات المعقدة والمركّبة .

يستنتج البعض من جو التفاوض الإقليمي حتمية التسوية أو رضوخ هذا الطرف أو ذاك لشروط الآخر . الأمور أعقد من ذلك بكثير، وليست الدول بحاجة إلى هذا المستوى من التحريض السياسي واستقطاب الجمهور الذي يمارسه الفرقاء السياسيون في بلد مفتوح كلبنان .

أخطأ ويخطئ من يعتقد أن العلاقات السورية الإيرانية من النوع الذي تحكمه بعض الاختلافات الظرفية في المصالح تجاه بعض الملفات . كما يخطئ من يعتقد أن سوريا لا تحسب حساب الفوضى في لبنان، أو أنها في لحظة استعادة نفوذها الإقليمي ودورها لا تستوعب مصالح الآخرين ولا تراهن على الشرعية اللبنانية بكافة أطرافها . قيل الكثير عن سيناريوهات الانقلاب السياسي في لبنان، وسعت إليه جديّاً بعض الأطراف في محاولة التعامل مع تداعيات قرار المحكمة الدولية أو استباق القرار . السرعة التي يتصرف بها الفرقاء والسياسيون هنا لا تتفق مع التوقيت الإقليمي والدولي، وكذلك الأولويات التي عند اللبنانيين عن تلك التي لدى الدول . هناك ملفات متشابكة تمتد من المتوسط حتى وسط آسيا يجب أن تتداخل عناصر التعامل معها وحلها، بينما يعتقد اللبنانيون أن قضاياهم وحدها تشغل العالم . هناك قضايا لبنانية خرجت عن سلطة الداخل بإرادة القوى السياسية أم بغير إرادتها لكنها تستخدمها في الخطاب السياسي في شكل هزلي أحياناً . هذه سلوكيات لا تقتصر على طرف واحد . فلا تحرير القدس ولا المواجهة مع ldquo;إسرائيلrdquo; أو الحرب أو السلام ولا معالجة مسألة السلاح والمحكمة الدولية والقرار 1701 يمكن حسمها هنا . لم نعتد بعد على إيجاد المسافات اللازمة بين تلك القضايا ومسألة معالجة شؤون الدولة ومؤسساتها وحاجات الناس ومشاكلهم .

لم نملك أدوات التعامل مع المشكلات لحلها . لم نطور مؤسساتنا الأمنية لنتحدث عن دور الدولة في الدفاع الوطني والأمني الداخلي . لم ننزع الصفة ldquo;المقاطعجيةrdquo; عن الإدارة وسياسة المحاصصة الطائفية، ولم نبن مؤسسات الرقابة والمحاسبة، لكي نستطيع معالجة المرافق الحيوية برؤية وطنية وبأسلوب جذري .

السياسة اللبنانية في حال من الفصام بين انتظار الحلول الخارجية وبين ادعاء التصدي لهذه الحلول . أما المتيسر من الإنجازات والأعمال فهو رهينة مصالح فئوية متنافرة . المشكل الأساس أن المواقف لا تصدر عن حسابات لبنانية عامة، بل عن مواقع سياسية ذات حسابات سياسية مناطقية وطائفية . ما هو مشترك بين الناس وما يجب أن يحظى باجتماع الرأي في الخدمات والأمن السياسي والاجتماعي يتحول في لعبة الاستثمار السياسي إلى قضايا خلافية . فعلاً لا يستطيع اللبنانيون أن يحكموا أنفسهم أو يديروا شؤونهم وفق معايير الدولة الحديثة . هناك شيء استثنائي هو أن القوى السياسية أشبه بجاليات للقوى الإقليمية، وهي لا تخضع لضغوط المجتمع اللبناني وحاجاته، بل إلى ضغوط وحاجات دوائر نفوذها ومواقعها . يُعيل الخارج قسماً مهماً من المجتمع اللبناني، لا سيما النخب السياسية في جميع الأطراف . السياسية تحولت في لبنان إلى مهنة واسعة الانتشار لها أجهزتها ومؤسساتها ومتفرغوها وحاجاتهم، وهذه تختلف عن حاجات الناس العاديين . عندما نتحدث عن ظاهرة التسلح في لبنان فإننا نتخيّل حجم الأموال التي تستهلكها، أما الإعلام فهو استثمار خاسر على الصعيد المادي، فكيف بمؤسسات الرعاية الاجتماعية الأهلية الطائفية، حيث مليارات الدولارات تنفق هنا من مصادر مختلفة وتعطل نوابض المجتمع وضغوط الفئات الخارجة عن نظام السيطرة وشبكات هذه المصالح .

لبنان مجتمع استثنائي، أي غير سوي وغير طبيعي، لذا هو ينتج ظاهرات إيجابية أو سلبية استثنائية . الانفتاح غير المقيد بأية ضوابط قانونية يجعل من هذا البلد حالة فريدة على الانتظام في منطق الاستقرار إلا حين تنعقد التسوية الدولية حوله، ويتولى طرف واحد تنفيذها، على ما في ذلك من استبداد السلطة غير المراقبة . تتهدد لبنان اليوم تحديات كبيرة في مناخ التسوية غير المؤكدة أو في مناخات النزاعات المحتملة . ليس في الداخل اللبناني من يستطيع أن يضع تصوراً مشتركاً للتعامل مع التطورات . الارتجال السياسي سمة من سمات القوى التي لا تملك التأثير في العنصر الإقليمي المهيمن .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف