بوصلة العراق التائهة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
احمد المرشد
يقول تقرير أمريكي إن الجنرال راي اوديرنو قائد القوات الأمريكية في العراق حتى أواخر الشهر الماضي، كان مغرما ولايزال بفيلم هوليودي اسمه حرب تشارلي ويلسون. ويحكي الفيلم عن الحرب الأمريكية بالوكالة ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان خلال حقبة الثمانينات، وطبيعي أن يتناول الفيلم الوقائع السياسية التي لاحقت تلك المرحلة، مثل تولي الأمريكيين المقاتلين الأفغان برعايتهم حتى تمكنهم من طرد الجيش السوفيتي من بلادهم الوعرة جغرافيا وسياسيا وعقائديا.
لسنا بصدد سرد الفيلم الأمريكي، ولكن مناسبته هي أن الجنرال اوديرنو الذي شارك في حرب العراق منذ بدايتها عاد 2003 كمسؤول عن بعض الوحدات ثم قائدا عاما لتلك القوات بأكملها، هو قائد عسكري مهووس بتطورات فيلم حرب تشارلي ويلسون. والحقيقة تقول إن الأمريكيين وأعضاء الكونغرس وافقوا على مد المسلحين الأفغان بالأموال والعتاد العسكري وقت الحرب، ولكنهم تراجعوا في وقت لاحق عن دعم إدارة بوش ثم اوباما لضخ الأموال اللازمة لتنمية الاستقرار في أفغانستان ومواجهة حركة طالبان، عبر إقامة البنية التحتية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا في هذا البلد حتى يتحول إلى بلد نام يتفرغ للتنمية الاقتصادية بدلا من الحروب والتطاحن القبلي والديني والسياسي.
هذا بالضبط ما يحدث في العراق، فالأمريكيون غزوا بلاد الرافدين واحتلوها وأقصوا صدام حسين وأعدموه في إشراقة يوم عيد الأضحى، ثم وحسب رأي الجنرال اوديرنو، فان القوات الأمريكية وهي تغادر العراق وفقا لقرار الرئيس الأمريكي بإنهاء الحرب، تترك الوضع الأمني هناك غير مستقر، وهو ما يجعل الجنرال الأمريكي يشعر بالقلق، ويعبر عن هذا التوتر الذي يموج بنفسه بقوله: "إن اشد ما يخشاه هو أن ترفع الولايات المتحدة يديها عن العراق سريعا، خاصة وأن الكونغرس الأمريكي رفض بقوة مطلب اوباما بتمويل إضافي لدعم القوات الأمريكية العاملة بالعراق.
الواقع يقول إن القرار الأمريكي بإنهاء الحرب أصدره اوباما فعليا، بيد أن الواقع يقول أيضا إن الوضع الأمني ليس على ما يرام في هذا البلد الذي تتنوع فيه أطيافه السياسية والعرقية والجغرافية، هذا الوضع الأمني الصعب لا يعتمد بصورة كلية على القوات الأمريكية وهجماتها التي كانت تشنها على بعض المناطق والجماعات الدينية والسياسية من حين لآخر، لأن هذه القوات توقفت عن شن عمليات أحادية الجانب.
ففي أواخر عام 2009، أمر الجنرال اوديرنو قادته بوقف العمليات الأمريكية، رغم أن هذا القرار اغضب بعض قادته العسكريين، لأنهم كانوا يعتبرون العراق "ميدان قتال" خاص بهم. وعمد القائد الأمريكي منذ ذلك الحين، أواخر 2009، الى تركيز مهمته في تدريب القوات الأمنية العراقية، خاصة وان تقريره العسكري المعروف باسم "مخطط ثغرة" وصف العراق العام الماضي بأنه "ديمقراطية ناشئة يجب تطويرها".
وإذا أردنا فهم ما يجري في العراق، نعود إلى مخطط الجنرال اوديرنو لنعلم طبيعة تطورات الأوضاع في هذا البلد الصعب، ففي بداية وضع تقرير "مخطط ثغرة" تم رصد كيف قسمت الطائفية الأحياء العراقية وعجزت الحكومة العراقية عن أداء مهامها والوفاء باحتياجات المواطنين مع انتشار أعمال العنف والجماعات المسلحة، مما دفع واضعو التقرير العسكري إلى استنتاج انه على الجيش الأمريكي ضرورة ملء الفراغ ليكون مسؤولا مسؤولية كاملة عن الدولة العراقية.
فالعراق كان في هذه الفترة يحتل عنوان "دولة فاشلة يجب بناؤها" في تقرير مخطط الثغرة للجنرال اوديرنو، مما حمّل الجيش الأمريكي المسؤولية الأكبر في امن البلاد مع ضخ مليارات الدولارات في عمليات إعادة بناء وتنمية اقتصادية وتأمين مناطقه المشتعلة.
والآن.. يضع الأمريكيون يدهم على مشكلة العراق من جديد، والتي تتركز في الطبقة الحاكمة الحالية، فهم منشغلون باقتتال من اجل الحكم والنفوذ، وهي مجموعة عاجزة عن تشكيل حكومة بعد مرور أكثر من ستة أشهر على انقضاء الانتخابات البرلمانية، أما على الجانب الأمني، فالأمريكيون على ثقة الآن بان العراق أصبح "دولة هشة يجب بناؤها" بعدما كان "دولة فاشلة يجب بناؤها"، ولعل الدلالة في هذا هو تراجع حدة العنف وأرقام القتلى.
إلا ان كل ما سبق لا يجيب على التساؤل المهم وهو: "هل الحكومة العراقية القادمة ستكون قادرة على الوفاء باحتياجات العراقيين؟.. وهل تستطيع ملء الفراغ الأمني بعد انسحاب الجيش الأمريكي؟".. خاصة وان استراتيجية الجيش الأمريكي منذ الاحتلال وحتى وقت قريب كانت تتمثل في ملء الفراغ الأمني الذي حدث بعد الإطاحة بصدام حسين والجيش البعثي، وإذا كان الجيش الأمريكي قد قام بهذه المهمة، لكي يتجنب الهزيمة في العراق رغم انه يغادر بلاد الرافدين مخلفا وراءه حربا لم يحدد فيها المنتصر أو المهزوم.
وربما دفع هذا الموقف الجنرال الأمريكي راي وديرنو إلى وضع تقدير موقف يقول، انه أمام الأمريكيين مهمة تستغرق نحو 5 سنوات تقريبا قبل أن يفهموا الوصلة التي يسير نحوها العراق، مع توقعه أيضا بأن الأحوال ربما تتداعى في العراق.
واقع الحال في العراق صعب بل يصعب تخيله أو توقع مجريات الأمور في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل غياب حكومة مسؤولة عن توفير الأمن للجميع وفرضه في المجتمع، ليكون هذا الأمن واستقراره سمة لهذا المجتمع بعد الانسحاب الأمريكي، فهذا الانسحاب رغم انه تدريجي ولن يكون بين عشية وضحاها، ألا أن العراق يعيبه أنه يزخر بجماعات عنف متعددة المذاهب والأطياف تتربص بأمن البلاد، ناهيك عن استمرار التدخلات الدولية والإقليمية الساعية إلى فرض إملاءات تتعلق بالعملية السياسية والتلاعب بالاستحقاقات الدستورية، وهو التدخل الذي يزيد من توتر المشهد السياسي وتعقيداته، وبالطبع يؤخر عملية تشكيل الحكومة، بل الواقع يقول أيضا إن الحالة الأمنية عشية الانسحاب الأمريكي لا تنذر بخير، رغم الادعاءات الحكومية بأن قوات الأمن العراقية أصبحت مستعدة لمواجهة أي اختلال امني.
لن نقول إن العراق أمامه وقت طويل كي يتحول إلى مشروع دولة، وليس دولة، لأن هذا من قبيل التشاؤم المفرط أو غير العقلاني.. بيد أن الواقع يتطلب ضرورة التزام الساسة العراقيين بكافة أطيافهم ومللهم بالمشروع الوطني وتأمين الديمقراطية الوليدة بالعمل السياسي الخلاق لتحقيق أهداف العراقيين الذين عانوا الامرين، المر الاول من براثن احتلال بعد حقب دكتاتورية مظلمة، ثم من طمع سياسيين وزعماء محليين في نهب السلطة والاستحواذ عليها وعدم التفريط فيها، وهو ما يؤخر نيل حريته بالكامل طالما مؤسساته تؤخر الحوار الهادف والبناء. فالخروج من خندق الطائفية السياسية وبناء مؤسسات مهنية محترفة قادرة على اداء مهامها، هو السبيل الى دعم الاستقرار والامن وبناء اقتصاد دولة قوي، وطبيعي أن يكون الاسراع في تشكيل حكومة اجماع وطني وفق الاستحقاقات الدستورية هو السبيل الى تحقيق هذا المنال، مع توقف الكتل السياسية عن الاعيبها وممارساتها السياسية اللعينة.
ومن نافلة القول، الاشارة الى أن القوى السياسية العراقية باتت هي المشكلة الاولى التي قد تحول دون تحقيق الامن والاستقرار في العراق. لماذا؟.. لانها ترفض عملية التداول السلمي للسلطة، مع احتفاظ بعض القوى سواء السياسية او الدينية بمليشيات عسكرية مسلحة، تفكر في استخدامها في وقت الحاجة لنزع السلطة بالقوة او الاجهاز على قوى أخرى منافسة لاجهاض مخططاتها وطموحاتها. وهذا يدفعنا للقول بان مخاطر العراق تكمن في داخله، ولكننا لا نستطيع استثناء العامل الاقليمي والدولي والانسحاب الامريكي.
واذا لم تتحكم القوى السياسية العراقية في طموحاتها وتنتبه الى المخاطر المحدقة بالعراق، فلن تقوم قائمة لهذا البلد، لان استقراره يجب أن يقوم على تجنب حدوث نزاع بين جماعته السياسية وان تتبنى هذه الجماعات رؤية الحوار كسبيل وحيد للتفاهم والتداول السلمي للسلطة، مع استيعاب ان السياسة هي فن الممكن وليس التنازع على السلطة، خاصة اذا كانت سلطة وليدة.
لاتزال بوصلة العراق السياسية تائهة، وأمن العراق لايزال على المحك، ومهمة العراقيين لإعادة العراق ما بعد الانسحاب الأمريكي هي ترويض طموحات ساستهم.