استراتيجية الدفاع اللبنانية: بين العديسة وبرج أبي حيدر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
رغيد الصلح
بين اشتباكات العديسة واشتباكات "حزب الله" مع "الأحباش"، انتقل الاهتمام بسرعة من تعزيز الجيش اللبناني الى اخلاء مدينة بيروت من السلاح. وحيث انه لم يكن هناك خلاف على مسألة تعزيز سلاح الجيش، وحيث ان انتشارالسلاح في العاصمة هو المسألة الأكثر حساسية، فقد طغت هذه المسألة الأخيرة طغياناً كاملاً على المسألة الأولى. لم تطغ قضية وجود السلاح في العاصمة على مسألة الدفاع الوطني من حيث درجة الاهتمام فحسب، بل طغت ايضاً - وهذا ما هو جدير بالاستغراب - من حيث المضمون. طغت مسألة مصير بيروت على قضية مصير لبنان، مع ان المسألتين تستحقان الاهتمام.
تراجع الاهتمام بمسألة السياسة الدفاعية في وقت اشترط الإسرائيليون لقاء الموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة - هذا اذا وافقوا على ذلك - ان تكون دولة "منزوعة السلاح"، ومن ورائها على الأرجح منطقة عربية خالية من السلاح. وتراجع الاهتمام اللبناني بالمسألة الدفاعية امام الاهتمام بالتصدعات الداخلية بينما بدأت معالم التحدي الإسرائيلي للبنان تظهر بصورة اكثر دقة ووضوحاً تحت عناوين الصراع على الغاز والنفط، هذا فضلاً عن المياه.
جواباً عن هذه الأسئلة والتحديات الأمنية المطروحة على لبنان دعا بعض اللبنانيين الى اعادة تطبيق قانون خدمة العلم. وعلى رغم الانتقادات العنيفة، وغير المبررة في العديد من الأحيان، التي وجهت الى القانون القديم، فإن عدداً متزايداً من اللبنانيين، مثل الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، بات يشعر بأن الغاء خدمة العلم كان خطأ، وأن من الأفضل احياء هذا القانون بعد ادخال تعديلات عليه تخلصه من اخطاء تخللته. ولقد جاء هذا الاقتراح المصيب، في سياق تصور اوسع وأدق في الوقت نفسه لمسألة الدفاع الوطني. فالمطلوب لم يكن تطبيق الخدمة العسكرية فحسب، وهي التي يطبقها حوالى ربع دول العالم، وإنما المطلوب هو تطبيق استراتيجية الدفاع الشامل التي ينفذها عدد اقل من دول العالم مثل سويسرا، فنلندا، السويد، الدانمارك، ولكنها تحظى باهتمام متزايد في المجتمع الدولي.
تشمل استراتيجية الدفاع الشامل اشراك سائر قطاعات الدولة والمجتمع، وجميع المواطنين والمواطنات، ممن يملكون القدرة على حمل السلاح في حماية التراب الوطني. في هذه الدول توزع مهمات الدفاع عن الوطن على القطاعين العام والخاص وعلى منظمات المجتمع المدني وعلى سائر الوزارات وبخاصة على وزارات الدفاع والداخلية والعدل. وفيها ايضاً تتحول المجتمعات المسالمة - مثل فنلندا المسالمة والمحايدة - بأسرها الى امم مقاتلة اذا اطل العدوان على اراضيها. بسرعة، ينخرط المواطنون في الحرس المحلي وفي حرس الحدود لحماية بلدانهم من التهديدات. في هذه الدول لا يبقى مواطن او مواطنة، كبير او صغير، خارج البنيان المقاوم.
رداً على الدعوة الى الأخذ بتجارب هذه الدول، لاحظ البعض، بحق، ان هناك فوارق كثيرة بين لبنان وبينها. فأين لبنان من هذه الدول التي تسجل اعلى المستويات في التقدم السياسي والاقتصادي والتقني والإداري وتملك القدرة على حيازة الأسلحة والتقنية المتقدمة من اي مصدر من مصادر السلاح في العالم؟ وهذه الفوارق او بعضها قد يحد من قدرة لبنان على مضاهاة هذه الدول وعلى اقتباس تجاربها الدفاعية والسياسية. ففي سويسرا، مثلاً، هناك حس عال بالمواطنة. وهذا الوعي الوطني يلعب دوراً مهماً في تحفيز المواطن على التعامل بأمانة مع السلاح، وعلى استخدامه ساعة يدق النفير العام. ولقد تكون هذا الوعي الوطني السويسري عبر عشرات السنين. في لبنان لا يتوافر مثل الوعي عند سائر اللبنانيين، فكيف يمكن تطبيق استراتيجية الدفاع الشامل عندنا؟
اذا اردنا ان نفيد من تجارب الدول التي طبقت هذه الاستراتيجية، فإن من الأصح ان نتطلع الى الشرق وليس الى الغرب. هنا سوف نجد دولاً ومجتمعات كانت حتى امد قريب تعاني مشاكل ومعضلات لا تقل عن تلك التي تتحكم بنا حالياً. كانت تعاني من الانكشاف الأمني والدفاعي وكانت تعاني من الاضطرابات ومن الصراعات الدامية، هذا فضلاً عن التخلف والفقر، ولكنها تمكنت من التغلب على كل ذلك. وبين هذه الدول اتجهت كل من ماليزيا وسنغافورة الى الأخذ باستراتيجية الدفاع الشامل. وقالت سنغافورة في تعليلها هذا الخيار ما يصلح ان يبرر للبنانيين اعتماد خيار مماثل اذ جاء فيه، "ان نمط الحروب في عصرنا هذا، ومحدودية مواردنا الطبيعية والبشرية، وطبيعة مجتمعنا (التعددي) وحجم بلادنا، كل ذلك يتطلب اعتمادنا قدرات الدفاع الشامل التي لا تعتمد على القوات المسلحة النظامية فحسب، وإنما ايضاً على مساهمة المواطنين". ولقد اخذ البلدان الآسيويان هذه التجربة عن الدول الأوروبية الا انهما لم يستنسخا التجربة الأوروبية بل عمدا الى تطويرها بما يتناسب مع ظروف البلاد وحاجاتها.
ففي الدول الأوروبية الواسعة الأكبر حجماً نسبياً والأكثر تقدماً على الصعيد الديموقراطي، جرى توزيع المهمات الدفاعية على المجتمعات على اساس بنيوي وجغرافي وبدرجة عالية من اللامركزية التي تسهل للوحدات العسكرية والإدارية والأهلية (البلديات، الحكومات، المجالس، المليشيات المحلية الخ...) التعاون السريع في ما بينها. أما تجربة البلدين الآسيويين فتختلف عن تجارب الدفاع الشامل الأوروبية من حيث انها اعتمدت درجة اعلى من المركزية في تنظيم الدفاع الوطني ولكنها استبدلت التوزيع الجغرافي لمهماته بالتقسيم الوظيفي لهذه المهمات.
في ظل هذا التقسيم، تتوزع الوحدات الدفاعية، كما هو الأمر في سنغافورة، على المجالات الخمسة الرئيسية التالية: العسكرية، النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والمدنية. عبر هذه المجالات يتوجب على المواطنين والمواطنات ان يقدموا كل الدعم للقوات المسلحة حتى تحمي البلاد. وأن يوفروا الأمن والحاجات الحيوية والرئيسية للمجتمع حتى يتمكن افراده من المضي في حياتهم الطبيعية حتى في اشد اوقات النزاع المسلح، وفي تأكيد الولاء للوطن والثقة بمستقبله وفي دعم الاقتصاد، اما الأفراد فلا يعتبر التقدم الذي يحرزونه في مجالاتهم المختلفة نجاحاً شخصياً فحسب، بل يعتبر معياراً لولائهم لبلدهم.
ساهمت استراتيجية الدفاع الشامل في توطيد الأمن والاستقرار في ماليزيا وسنغافورة وفي تغلبهما على المشاكل الإثنية التي كانت تفتك بهما، كذلك ساهمت هذه الاستراتيجية في صعود البلدين الاقتصادي المذهل، وفي تحصينهما ضد العدوان. بفضل هذه الاستراتيجية انتقلت سنغافورة، في نظر الفاعلين الدوليين، من بلد صغير الى قوة متوسطة في الإطار الآسيوي. وبفضل هذه الاستراتيجية تحولت ماليزيا من بلد تمزقه الحرب الأهلية الى لاعب آسيوي ودولي مهم. استراتيجية الدفاع الشامل لم تمكن ماليزيا من حماية نفسها فحسب، بل من الاضطلاع بدور رئيسي في حماية النظام الإقليمي الآسيوي (رابطة دول جنوب شرقي آسيا - "آسيان") الذي ساهمت في تأسيسه. ان ماليزيا تعلن بإصرار اليوم انها تعتبر اي اعتداء على اي دولة من دول "آسيان" اعتداء على اراضيها. كما ان النجاحات التي حققتها استراتيجية الدفاع الشامل جعلت اندونيسيا تفكر جدياً في اعتمادها.
لقد التزمت الدول الأوروبية سياسة الدفاع الشامل بعد ان قطعت شوطاً كبيراً على طريق التقدم السياسي والاقتصادي. بالمقابل فإن الدولتين الآسيويتين اعتمدتا هذه الاستراتيجية قبل رحلة الصعود الكبير التي قطعتاها. اخذهما بالدفاع الشامل كان عاملاً مهماً من عوامل تحولهما الى "نمرين آسيويين". ان التركيز على المقارنة بين السياسة التي يمكن لبنان ان يتبعها في مجال الدفاع الوطني، من جهة، وبين سياسة الدفاع الشامل التي اعتمدتها الدول الأوروبية، من جهة اخرى، قد يتحول الى حجة للإبقاء على الوضع الراهن. المقارنة مع التجارب الآسيوية تدلنا على ان الأخذ باستراتيجية الدفاع الشامل ليس امراً مستحيلاً. البديل من ذلك ان نركز كل الأنظار على تداعيات اشتباكات برج ابي حيدر، وأن ندير الظهر لدروس اشتباكات العديسة.