قفص المفاوضات «الصامتة»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
زهير قصيباتي
بين الترغيب والتهديد اللذين تستخدمهما وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في حضورها جلسات إطلاق مفاوضات المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، التقط الرئيس محمود عباس الإشارة مجدداً، لطالما ان فريقه هو المعني الأول بالتهديد بـ "عواقب لا يمكن التكهن بها" إذا تعطلت المحادثات. وأما الترغيب فتعتقد واشنطن انه يتيح للجانبين ابتداع "مخارج خلاّقة" لعقدة انتهاء فترة تجميد الاستيطان آخر الشهر.
وإذا جاز تلمّس الترغيب الأميركي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بتبني واشنطن إصراره على اعتراف الفلسطينيين بـ "يهودية" الدولة العبرية "الديموقراطية"، من دون إسباغ أولوية على هذا الهدف في جدول أعمال المحادثات، فالحال أن ترغيب كلينتون لعباس لا يتجاوز تكرار تأييد مطلبه وقف الاستيطان، كي يبقى فريقه في "القفص السري" للتفاوض. لكن الأكيد ان الوزيرة لم تعنِ بالمخارج "الخلاّقة" سوى قبول الجانب الفلسطيني البقاء في "القفص" حين يعاود نتانياهو إطلاق عمليات البناء في المستوطنات بوتيرة "محدودة"، لئلا ينكث بتعهداته لحكومته التي يوحدها التطرف. والوتيرة ذاتها ليست أقل من كارثة، إذا صحّ ما أورده الإعلام الإسرائيلي من ان رئيس الوزراء يريد لأي اتفاق، ولو وقِّع بعد سنة، أن ينفذ على مدى عشرات السنين!... البديل اتفاق سريع على رسم الحدود لن يكون يسيراً.
لدى الراعي الأميركي لمسارٍ يلحّ على إبقائه سرياً، لتقليص قدرة الفصائل الفلسطينية المعارضة على تعطيله وعلى هدر "الفرصة الأخيرة"، المطلوب ان يتساوى "تنازل" نتانياهو عن أولوية اعتراف الفلسطينيين بـ "يهودية" إسرائيل، بتنازل عباس عن تمديدها التجميد الكامل للاستيطان، كي تستمر المفاوضات "الصامتة" الى نهايتها. وإذا كان واضحاً مقدار التضليل أو التلاعب الأميركي بمرجعيات التفاوض، ومقتضيات قيام الدولة الفلسطينية، فانحياز واشنطن الى "يهودية" الدولة العبرية قبل تفاوض الطرفين، لا يعني سوى قبولها شطب حق العودة للاجئين وتشديد الضغوط على عباس، لإرغامه لاحقاً على التسليم بما تطمع به إسرائيل حداً أدنى لأي اتفاق.
قد لا يجافي الواقع القول ان الرئيس الفلسطيني ليس أقل تشاؤماً بآفاق التفاوض من الرأي العام الإسرائيلي الذي ينحو الى تطرفٍ تكتمل حلقاته، إذ يعتبر الطرف الآخر مسلوباً من أي أداة للضغط، أسيراً لصراعات "داخلية" ستجعله في أحسن الأحوال امام خيارين: الإذعان للأهداف الأميركية - الإسرائيلية أو إعلان موت السلطة الفلسطينية، وإخلاء الساحة للفصائل المعارضة والفوضى.
والمفارقة أن الرأي العام الإسرائيلي يتلمس في تشاؤمه هو، النيات الحقيقية لنتانياهو، لكنه في آنٍ يرتقي أعلى درجات التطرف، بعدما تبخّر اعتراف بعضه بحقوق للشعب الفلسطيني، وانحاز كلياً الى قبضة الأمن وسياسة القوة والبطش.
تسعة لقاءات في شرم الشيخ، قبل اجتماعات القدس، ولا "انفراج" سريعاً يمكن توقعه في مفاوضات مسار ميتشل السري. لكن الأولوية لدى واشنطن هي إبقاء الطرفين في القفص، بصرف النظر عما اذا كان حضورها المباشر وتدخلها تلبية لحسابات داخلية أميركية، أم لتبديل قواعد الصراع في المنطقة، في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق. وتلك رؤية اسرائيلية تعزى الى مبررات "ملء الفراغ"، ومقتضيات "التوازن الإقليمي" التي مكّنت اسرائيل من إقناع إدارة أوباما برفع سقف التنسيق العسكري - الأمني معها الى حدود تعتبر سابقة، وفي إطار تحديث مفهوم التفوق "اليهودي".
لذلك كله، وفيما السلطة الفلسطينية لا تفقد الأمل بتجريب مفاوضات "الفرصة الأخيرة"، ستبقى محاصرة بين الابتزاز الإسرائيلي الذي يحتمي بورقة الأمن، ونار التخوين التي تؤججها "حماس" والفصائل، وسيف الطعن بشرعية السلطة. قد يطلب ميتشل من دمشق عدم تشجيع الفصائل الممانعة على عرقلة التفاوض، في مقابل تدخل أميركي مباشر لإحياء المسار السوري، وعدم التخلي عن نافذة الحوار الأميركي - السوري. لكن ذلك لا يلغي تساؤلاً عن قدرة الفصائل على استخدام السيف الذي تلوّح به، لقطع عنق... "المهزلة".
وبين جولة وأخرى من جولات مسار ميتشل، قد نشهد مزيداً من إطلاق الصواريخ الفلسطينية ومزيداً من القتل الإسرائيلي لرهائن الحصار في غزة... أما "حماس" فلا يمكنها وسواها من الفصائل ادعاء تضحية عباس بالحوار الفلسطيني - الفلسطيني الذي شيّعته لغة السيف بين غزة ورام الله، قبل وقت طويل من المفاوضات "الصامتة".