موت الشعوب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله السويجي
لم يتحدث أحد عن موت الشعوب بل عن عجزها، لكن العجز التام وغياب أثرها في اتخاذ القرارات المصيرية الخاصة بحياتها المادية والمعنوية هو موت بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالموت ليس التمدد بلا حراك تحت التراب، وإنما التحرك فوق التراب من دون أثر، كالأشباح المنكسرة المهزومة السوداء التي لا يدركها الرائي في الظلام، وشعوب لا تتحرك لا في الليل ولا في النهار هي شعوب شبحية، لا تأخذ حيزاً ولا تثير جلبة ولا ترعب طفلاً ولا امرأة، بل إنها أشباح استأنست حالتها، واستمرأت كينونتها، فتختفي لمجرد سماعها صوت قدم ثقيلة تخبط الأرض وتنتهك العرض وتصادر الأرواح من الأجساد .
تموت الشعوب حين تفقد زخمها ككتل ومجموعات، وحين تتحول إلى مجرد أفراد عاجزين عن فعل شيء ما، باستثناء ما تفعله الكائنات الأخرى، تأكل وتشرب وتتوالد وتخرج في النهار باحثة عن لقمة عيشها، وتعود مساء لتتسمر أمام جلاديها . أفراد استبدت بهم الفردانية حتى في إطار الأسرة، كل يبحث عن نفسه ومصلحته الخاصة جداً، وهذا الفرد على استعداد تام لقتل أبيه أو سرقة أخيه أو بيعه داره ووطنه وترابه، ولهذا تستشري الخيانة والعمالة والانبطاح في أحضان الأعداء، فتحقيق الفردانية يمر بمراحل من التراجعات مخيفة .
وتموت الشعوب حين تفقد الإحساس بالهزائم والتراجعات والتنازلات، وحين ترى الأعداء يبطشون ويصادرون ويعتقلون وينكلون ويسجنون ويعتدون، من دون أن تقوم بفعل نضالي انتفاضي احتجاجي معاكس، فقد أدمنت المذلة والخسارات والموت البطيء .
وتموت الشعوب حين ترى قادتها يسيرون في مسار يؤدي إلى تشويه ملامحها وجوهر عقيدتها وأوليات قيمها ولغتها وثقافتها، فلا تقوم بتصويبها ولا بتعديل مسارها، لا بالكلمة ولا بالفعل ولا حتى بالصراخ في غرفة مظلمة مغلقة .
وتموت الشعوب حين ترضى التحول إلى كائنات آلية لا دور لها في صنع مصيرها، ولا أسلوب حياتها، ولا في اختيار قادتها، ولا نوعية إنتاجها، ولا أساليب تعليم أبنائها وتربية أجيالها، وحين ترضى العيش على هامش الحياة، تأكل مما لا تنتج، وتلبس مما لا تنسج، وتتفوه بما لا تعتقد، وحين ترى الأسود أبيض، والكاذب صادقاً، والخائن وطنياً، والكافر مؤمناً، والسارق شريفاً، والشيطان ملاكاً .
وتموت الشعوب حين ترى مقدساتها تُدنس وتصادر وتهدم وهي صامتة، وحين تضحك لأعدائها وتعانقهم وتتفرج عليهم بإعجاب منقطع النظير، وحين ترضى بالأمر الواقع المميت، وحين تضع سقفاً لطموحات أبنائها، وحين تقبل بحكم الغريب فتنصاع له، وحين ترى أراضيها تغتصب بتوقيع قلم فتتأفف قليلاً ثم تعود إلى حظيرتها .
تموت الشعوب حين تصل إلى مرحلة اليأس، حين تعاني من الاكتئاب المزمن، وحين تعرف مرضها فلا تذهب إلى الطبيب، وحين ترى عضواً فاسداً من أعضائها فلا تبتره .
وتموت الشعوب حين تنشغل بالحروب الطائفية والمذهبية، وتنتشر بين أبنائها الضغينة والحقد والكراهية، وتموت حين تلجأ للسلاح والقتل كي تسوي أوضاعها، وحين يغيب الحوار الصحي والعقلاني عن جلساتها، وحين تفرز لمؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية قيادات ليست مؤهلة لقيادتها .
وتموت الشعوب حين تقبل بيع أصواتها الانتخابية لحضرة النائب، أو معالي الوزير أو سيادة الرئيس، وحين تتاجر بأوطانها، فتتحول السرقة إلى شطارة، والتحايل إلى مهارة، والمقالب إلى فن، والتشبيح إلى رجولة .
وتموت الشعوب حين ترضى أن يتحول هاجسها إلى كهرباء وماء ودواء، وتسجن نفسها في انتظار النور وقطرة ماء .
حين تعيش الشعوب هذه الحياة تكون ميتة، فهل شعوبنا العربية ميتة، أم شبه ميتة، أم تحتضر، أم إنها حية ترزق ولها فعل الشعوب اليقظة المستيقظة الحرة الفخورة بعروبتها ومعتقدها؟
وهل هناك ما يثبت أنها حية نشطة تعبّر عن رأيها وتمارس حقها في محاربة أعدائها ومكافحة سارقي أموالها، ومناهضة لمنتهكي حقوقها والعابثين بقيمها؟
ما هو الهامش الذي تتحرك فيه هذه الشعوب؟ وما هي أساليب مشاركتها في اتخاذ القرار؟ ولماذا تتربع هذه الشعوب على رأس مستهلكي السجائر؟ ولماذا تنتشر أمراض القلب والسكري والضغط بنسبة كبيرة بينها؟ ولماذا يختلف متوسط أعمار أفراد هذه الشعوب عن مثيله في العالم المتقدم، وبفارق عشر سنوات على الأقل؟ ولماذا يطمح أبناء هذه الشعوب للهجرة إلى أوروبا وأمريكا والغرب بشكل عام؟ ولماذا تهاجر الأدمغة والكفاءات والقدرات إلى بلاد بعضها يتحالف مع أعدائنا تحالفاً استراتيجياً؟ ولماذا تزداد نسبة الانحلال الأخلاقي بين الجنسين؟ ولماذا التقليد الأعمى للآخر؟ ولماذا معايير الجودة تُستمد من الآخر؟ ولماذا تستورد مناهجها التعليمية من الآخر؟
ولماذا ترضى هذه الشعوب أن تذهب مواردها المالية لشراء أسلحة في ظل اختيار السلام مع العدو، وفي ظل عدم النية لدخول حرب؟ ولماذا أصبحت بعض هذه الشعوب على بعد خطوة من الحروب الأهلية والعقائدية والمذهبية؟
إنها مجرد أسئلة تدور في الرؤوس المندهشة والمذهولة، تدور حائرة مستنكرة للمشهد العام والخاص والأكثر خصوصية، والإجابة ليست ذات أهمية، وإنما البحث فيها هو الأكثر أهمية . . إنها مجرد أسئلة، والإجابة متروكة لكم .