أركون: المعرفة المؤجلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
احمد المهنا
مشكلة السلطة العربية هي المشروعية. من اين تستمد المشروعية: من الشعب؟ من الانجازات؟ من الدين؟ حكومات "عصر الثورة" مطلع الخمسينيات زعمت ان المشكلة حلت باعتماد مشروعية الشعب. وكل الثورات وكل الانقلابات قامت باسم الشعب. ولم يمض عقدان من الزمن حتى كانت حكومات الثورة قد استكملت اكبر عملية مصادرة في التاريخ لارادة الشعوب.
ولن نجد كبير فرق بين الافكار السياسية المحركة لتلك الحقبة، مثل القومية او الشيوعية او الوطنية، من حيث نتائجها الاجتماعية والمعرفية، وهي كارثية بكل معنى الكلمة. اجتماعيا اوقفت تنامي الطبقة الوسطى تدريجا الى ان هدتها. وتسلمت الحكومات عنها مسؤولية انتاج الثروة والمعرفة.
اما المعرفة التي تولت انتاجها في التعليم وفي الاعلام وفي كل انحاء الفضاء الثقافي فقد جاءت من نوع اسطوري منع كل امكانية للفكر الحر، وللتفكير العقلاني. وجاءت تلك الاساطير السياسية الجديدة فوق اساطير قديمة لم تكن تصفية الحساب النقدي معها قد انجزت بعد. كان " عصر النهضة" محض بداية مبتورة. بترت بالثورات والانقلابات.
وبتلاشي او اضمحلال الطبقة الوسطى وغياب المعرفة العقلانية فقدت السلطة اي مشروعية وتحولت الى غنيمة فردية او عائلية او مناطقية او حزبية او طائفية وما اشبه. ان المعرفة العقلانية، القائمة على النقد وحرية التعبير ومفاهيم المواطنة وهيبة القضاء والتداول السلمي للسلطة، تأتي تعبيرا عن اطار اجتماعي، وتأتي تلبية لحاجاته. هذا الاطار هو الطبقة الوسطى او ما يعرف بالمجتمع البرجوازي الحديث. وهو كان قد بدأ بالتشكل جنينا في رحم مجتمعاتنا فأجهضه عصر الثورة.
ومنذ ذلك الوقت لم تقم لذلك الاطار الاجتماعي قائمة. وبما انه الحاضن للثقافة الحرة فان هذه الاخيرة ظلت بلا قوائم هي الاخرى. لذلك، يقول المفكر محمد اركون، الذي ودعنا قبل ايام، "نجد انفسنا نحن المفكرين العرب الذين يريدون اعتماد الروح النقدية مبعدين من اوطاننا ومن الاحترام الذي نستحقه".
وقد انحسرت الافكار القومية والشيوعية وورثتها الافكار الاصولية والطائفية. راحت اساطير كانت اشبه بأثاث جديد على بيت قديم، ثم اصبح البيت القديم مصدر انتاج اساطير " اصيلة" مثل الاسلام السياسي ومثل الطائفية. وقد بدأت هذه الاساطير الاخيرة حركات سياسية، ثم تحول بعضها الى حركات مسلحة.
واليوم تبدو معارك الاسلام السياسي ومعارك الطائفية على اشدها في العالم العربي والاسلامي. ومع هذه المعارك يزداد مفهوم وواقع مشروعية السلطة تحللا. فقد تستمد السلطة في مصر مثلا شرعيتها من التصدي للاخوان المسلمين بنظر قطاع واسع من الشعب، وبالعكس من ذلك فانها منزوعة الشرعية بنظر جمهور " الاسلام هو الحل"، وفي نظر جمهور ثالث فان مشكلة المشروعية تكمن في الدستور ذاته.
ولقد تهاوت محاولات ارساء الشرعية على اساس الدساتير ، لأنها غالبا ما فصلت لاكساء الحكومات انواعا من الشرعية الزائفة. وبالتالي فان تلك الدساتير امست عديمة القدرة على لجم الصراعات السياسية والطائفية المستعرة على جبهة السياسة او على جبهة الحرب في العالم الاسلامي من الجزائر الى باكستان.
ومنذ بدء عصر الثورة وصولا الى هذه المعمعة الطاحنة والطويلة فان الضحية الأولى هي المعرفة العقلانية، المتحررة من الاساطير، والمؤسسة لشرعية السلطة وللمجتمع المفتوح. انها المعرفة المستحيلة او المؤجلة بنظر محمد اركون. فالاطر الاجتماعية لمثل هذه المعرفة ليست موجودة عندنا قديما وحاليا، وان غيابها " هو ما دفن فكر ابن رشد عندنا الى يومنا".