الفتنة ومحكمة التاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أمجد عرار
يعلّمنا التاريخ أن له صيرورته ودينامياته وأبعاد التطور فيه، ولن نعتب عليه لإخراجه قطار مجتمعاتنا العربية عن سكّته لكي تتصادم ويستفيد المتربصون من تصادمها، إنما يجب أن نعتب على أنفسنا لأننا قبلنا لأنفسنا أن نكتفي بأن نكون ركاباً نغط في نوم عميق وتركنا للآخرين قيادتنا . لا يكفي ما بنا من نكوص ومن غياب للديمقراطية والعدالة والتنمية، فرحنا نضيف إلى علاتنا عللاً أخرى، ولمشاكلنا المزيد منها، ولأسباب فُرقتنا ما يضاعفها ويضعفنا . مزّقنا الآخرون دولاً ثم حوّلوها إلى دويلات، شرذموا الشعب طوائف والطائفة مذاهب، ولم يكتفوا بتمزيق علم عروبتنا وتطريز سماواتنا بأعلام من كل الألوان، بل شرخوا أسطوانة صوتنا الواحد وصمّوا آذاننا بمئات الفضائيات الفتنوية الملقّمة بقذائف اختراق التحصينات القومية والوطنية والأخلاقية . اختطفوا من بيننا أرواح القابضين على مبادئهم كالقابض على الجمر، وأبقوا لنا غرباناً تنعق بالفتنة، وتقذف في وجوهنا طوال الليل صراخاً أجوف عن الوطن والمصلحة العليا والدولة والشرعية والمؤسسات، وتقبض في النهار أجرها بالدولار واليورو، وربما ب ldquo;الشيكلrdquo; .
نكتب ونقرأ ونتكلّم لأننا نجونا حتى الآن من سهام الأعداء، فمتى ننجو بأنفسنا من أنفسنا؟ نتقاتل على ظل شجرة يقطّعها أعداؤنا ولا يبقون لنا سوى خشبة يابسة، ليست خشبة الخلاص، ولكن لأنهم يعرفون أن سوس الخشب منه وفيه . وفّروا دماءهم وجبلوا فرقتنا بدمائنا . طبخوا لحمنا وأطعمونا منه، منّا الحطب والموقد والنار ولهم الحلّة، لنا الأرض والبذار والبذّارون ولهم الغلّة . كانوا يحسبون لوحدتنا ألف حساب، لكنّنا لم نعد نحفظ من الحساب سوى جدول الضرب بالنار على رؤوس بعضنا . سرقوا منّا المعنى وتركوا لنا حروفاً جافة . حطّموا قواعد لغتنا، سرقوا الفاعل والضمير المتّصل بأصحابه، وأبقوا ضمائر منفصلة عن كل شيء سوى أولياء النعمة .
أيّها المتاجرون بالوطن والشرعية المزيّفة، الوطن لمن يدافعون عنه لا عن أنفسهم وحساباتهم المصرفية، والشرعية لمن يدفع الثمن من دمه ومن أعزائه وليست لمن يقبض ولا يشبع .
أيها المتقنّعون بالدين، لن تقنعوا سوى قطعانكم بأنكم تحملون توكيلاً إلهياً بمحاكمة البشر وفق تقسيماتكم، وأن الثواب والعقاب يوزّع كالبضاعة بالجملة، وأنكم تملكون حصرياً حق توزيع شهادات الكفر والإيمان .
أيها العازفون على وتر الطائفية والمذهبية، نحن لم ولن نسأل صوت فيروز عن طائفته ومذهبه، قبل أن نسمح له بمعانقة قهوة الصباح والتسلل إلى زهرة المدائن وشوارعها العتيقة؟ لم ولن نستأذنكم كي نغذّي أرواحنا الجائعة بأنغام مارسيل وجوليا وشعر درويش والقاسم . ستفشل محاولاتكم إنشاء محكمة تفتيش كيديّة لضمائر الناس، وستقفون بلا كراسٍ مرتجفين في محكمة التاريخ .
أيها المتربعون على عرش الفتنة، هذه رصاصتكم الأخيرة فأطلقوها . صولوا وجولوا وراكموا حساباتكم من دمنا ومن قوت أطفالنا، ارفعوا وتيرة انتهازيتكم وعمالتكم وسابقوا الزمن القصير قبل أن يكشفكم من تبقى من قطيع المغفّلين . ضعوا الوسادة تحت رأس عدونا لينام، امنحوه فرصة لكي يفرفش ويصفّق للعبكم الدور جيداً، لكن لا تنسوا أنه مع آخر قطرة من عصيركم سيلقي بكم في سلة الزبالة .