العراق: الساسة والمجتمع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جابر حبيب جابر
كنت آمل القول إن الماراثون الطويل من التشاور والتفاوض والتهديد والوعيد بين الكتل السياسية العراقية تركز حول اختلاف الأحزاب بخصوص أفضل السبل لرفع مستوى معيشة المواطن العراقي، أو بخصوص أولويات الإعمار وسبل تخفيف البطالة وتطوير النظام الصحي والتعامل مع الجفاف والتصحر المتزايد في ارض الرافدين، لكن أيا من هذه الأمور لم يخطر ببال المتفاوضين أو تستوقفهم قليلا. كل المناورات والتحركات كانت تجري حول موضوع واحد ووحيد: من سيحظى برئاسة الوزراء وبالتالي يسيطر على الأجهزة الأمنية ومقاليد السلطة الأخرى.
ما سيحدث في الأيام المقبلة سيكون استمرارا لهذا الماراثون حتى وإن كان موضوع رئيس الوزراء بات أقرب إلى الحسم، فالسباق سيتركز حول من يحصل على ماذا، وما هي حصة هذا الطرف أو ذاك، وستشهد صفقات الوقت الضائع مناورات من نوع آخر قد نسمع فيها تهديدا بالمقاطعة أو الانسحاب أو الذهاب للمعارضة، وستغلف كل التصريحات بعبارات عن مصلحة الشعب العراقي وحقوقه ومستقبله، لكن ذلك يعني مصلحة هذا الحزب أو ذاك، وهذا الزعيم أو غيره. الصراع الراهن ليس له علاقة جذرية بطبيعة الإشكاليات التي يواجهها المجتمع و"الناخبون"، بل هو معني بالنخب ومصالحها وتنافساتها في نمط مكرر عرفه العراق طوال تاريخه الحديث.
فـ"الشعب" ليس سوى كلمة ذات طابع شعاراتي في السياسة العراقية، إنه رصيد احتياطي يتم اللجوء إليه عند الحاجة للتجنيد وشن الحروب، وللمظاهرات "المليونية"، كما لوضع الأوراق في صناديق الاقتراع. كانت تلك هي الحالة منذ نشوء الدولة العراقية، حيث برهنت الطبقة السياسية دائما على ميل نحو الاستئثار والتكتل في تجمعات من أصحاب التفكير المنسجم والمصالح المتشابهة يطلق عليها أحزاب، تنخرط مع بعضها في علاقات من التآمر أو التسويات الظرفية أو "الصفقات" المصلحية.
أشار معظم الباحثين في التاريخ العراقي مثل بيتر سلاغيست وحنا بطاطو إلى هذه النزعة والميل لتشكل طبقة سياسية متعالية ومنقطعة عن هموم المجتمع ومحتكرة للسياسة، ففي العهد الملكي مثلا تم تشكيل 58 وزارة ضمت 778 منصبا وزاريا تناوب على احتلالها 166 شخصا فقط وعلى طيلة 32 سنة، وقد رأس نوري السعيد وحده الوزارة 14 مرة. وفي العهد البعثي شغل بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، فضلا عن رئيسه، مناصبهم لمدى الحياة، وفي العهدين احتكرت عوائل وعشائر معدودة السلطة والسياسة بشكل شبه مطلق. ونرى اليوم تكرارا لنفس السيناريو رغم كل المظاهر التي تشي بتعددية مراكز القوى وشمول العمل السياسي لأطياف ومكونات إثنية ومذهبية متعددة، إلا أنه بمرور الوقت تتبلور طبقة سياسية كيفت نفسها مع اللعبة الانتخابية لكنها غير معنية باللعبة الديمقراطية إذا فهمنا الأخيرة على أنها تمثيل للقوى والمصالح والاحتياجات الاجتماعية وتعبير عن الصراع الاجتماعي بأدوات سلمية. والأطرف من ذلك أن بعض أوجه الاحتكار العائلي في العهد الراهن تمثل امتدادا للعهد الملكي، فالمرشحون الثلاثة لرئاسة الوزراء المالكي وعلاوي وعبد المهدي فضلا عن الهاشمي والجلبي هم من عوائل مارست السياسة في ذلك العهد ولكل منهم أب أو جد تقلد منصبا وزاريا آنذاك.
ورغم ما نقوله جميعا من أن المجتمع العراقي وبعد كل تجاربه المرة هو مجتمع مسيس، فإن ذلك لا يعني ممارسة السياسة بقدر ما يعني الحديث عنها، أما ممارستها فهي مغلقة على الطبقة السياسية. ويمكن أن أقدم تفسيرين لذلك، الأول هو طبيعة القيم الاجتماعية السائدة في العراق والمنطقة وهي ما زالت قيما تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة الحديثة حيث لا توجد ترجمة عملية لمفهوم المواطنة، فالناس في هذا النوع من المجتمعات هم "رعايا"، علاقتهم بالدولة هي علاقة خضوع واستكانة، والعمل السياسي كان تاريخيا مرتبطا بالقوى العسكرية والمغامرين والطامحين وكان ينطوي على حروب وعلى دحرجة لرؤوس الخاسرين وأعمال انتقام بشعة، وبالتالي فإن الناس المفتقرين لأدوات الدخول في مثل هذا الصراع يميلون إلى البعد عن الشر. ولم يتغير الكثير منذ العهد المملوكي إلى وقت قريب، فالسياسة ما زالت لعبة خطرة لا يجيدها إلا المغامرون والأقوياء، رغم أن رجال هذا العهد وجلهم قضوا زمنا طويلا في معارضة نظام صدام برهنوا على قدرة كبيرة في البقاء ولم تطلهم أي من كوارث الموت التي لحقت بالعراقيين طوال السنوات الماضية.
أما السبب الثاني، فهو الطابع الريعي للدولة العراقية الذي لا يجعلها فقط مكتفية عن المجتمع وتمتلك الموارد الضرورية للاستمرار، بل وأيضا ميالة إلى السيطرة على المجتمع وتقييد حركته وتحديد خياراته. وإذا كانت هذه السيطرة تبدو عسيرة اليوم فلأن أدواتها غير متوفرة، ولأن الصراع يجري حول السيطرة على الدولة نفسها لنفس السبب: أي لأنها موقع تجمع الموارد ومصدر السيطرة على مقدرات البلد. ما لم يحصل تغيير قيمي حقيقي، وما لم تتغير الطبيعة الريعية للدولة ويتشكل مجتمع مدني مستقل وفاعل، فإن المستقبل سيكون تكرارا مملا لذات السيناريو.