التسوية الوحيدة تكون بتحييد السياسي عن القضائي : لبنان ليس رواندا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
دعاية 8 آذار تحاكي تحريض "الهوتو" على "التوتسي"
بيروت - وسام سعادة
لا يبتعد منسوب الكراهية والحقد في التصعيد المنهجيّ ضدّ المحكمة الدوليّة وضد مؤسسات الدولة وأجهزتها وضدّ قوى 14 آذار بقياداتها وقواعدها عن ذلك التحريض المتواصل الذي كانت تبثّه "إذاعة الألف تلّة" في راوندا عام 1994 تشجيعاً للمواطنين الهوتو لـ"العمل في ساعات الدوام الرسمية" للتخلّص من المواطنين التوتسي.
بل كانت عناصر الدعاية التي تبثها مجموعات "الأكازو" ضد التوتسي مشابهة إلى حد كبير لتلك الدعاية الكارهة لقوى 14 آذار. كان الحالمون بـ"سلطة الهوتو" يحرّضون للفتك بالمواطنين الهوتو بدعوى أنّهم عملاء للإستعمار وإستئثاريين، وكان قادة الهوتو يستخفون في الوقت نفسه من أي تدخّل إستعماريّ لنجدة شعب الهوتو وبأي محاسبة مستقبلية في إطار القانون الدوليّ.
وكانت دعاية "سلطة الهوتو" تقول لأهل التوتسي أنّ عليكم ألا تكونوا قلقين فقط بل مذعورين ومرعوبين، وكان يجري إقناع أهل الهوتو بأنّهم الأقوى، لأنهم يملكون مشروعية مناهضة للإستعمار، ولأنهم يملكون معادلة الديموغرافيا والسلاح والتعبئة. وفوق ذلك، كان هناك "عباقرة" في الغرب يحسبون الصراع بين الهوتو والتوتسي على أنّه صراع طبقيّ تحرّريّ. كان هذا قبل أن يبيد شعب الهوتو شعبَ التوتسي في بضعة أسابيع.
المقارنة جائزة بين نموذجي 8 آذار و"سلطة الهوتو" (أو الهوتو باور) في الدعاية. مع ذلك، فليس من يتصوّر أنّه يمكن تطبيق "النموذج الروانديّ في الحسم" على الأرض اللبنانية. لكنه السؤال بالتحديد: لماذا يستخدم مستوى التحريض نفسه على أساس الكراهية والحقد، ليلاً نهار، في كل من راوندا ولبنان، وتكون النتيجة إبادة جماعية في رواندا في حين أنّ الوضع يبدو مختلف تماماً في لبنان: إرهاب على الشاشات وناس في المجمعات التجارية؟
السبب الرئيسيّ هو المحكمة الدوليّة. يحاول البعض أن يبرّر لسياسة "حزب الله" ضد المحكمة الدولية بالقول بأنّه أيّاً تكن الحقيقة فإن ثمّة حقيقة أخرى ينبغي الإلتفات إليها ومفادها أنّ المحكمة الدولية والقرار الظنيّ سيؤديان إلى إنفجار الفتنة وإندلاع الحرب. في الواقع، الأمر معاكس تماماً. المحكمة الدوليّة هي الضمانة الأساسية التي ما تزال تحول دون إنفجار الفتنة وإندلاع الحرب. ولو سلّمنا جدلاً أنه من الممكن فرط المحكمة الدوليّة فإنّ الوضع لن يكون أبداً مجرّد العودة إلى لحظة ما قبل تشكيلها، وإنّما سيتطوّر الوضع نحو إحلال هيمنة فئوية شاملة بكل ما للكلمة من معنى، أي نحو تعميم منطق إضطهاد طائفة لطائفة أخرى وللطوائف الأخرى وللأحرار من طائفتها، وسيتطوّر الوضع في مواجهة هذه الهيمنة نحو إطلاق العنان لنزعات طاردة وتفتيتية للكيان اللبناني، أي أنّ القضاء على المحكمة الدولية يساوي اليوم القضاء على وحدة لبنان.
السبب الثاني هو المحكمة الدولية أيضاً، لكن في بعد آخر. في رواندا وسيراليون ودارفور وكوسوفو جرى ما جرى ولم تكن هناك آلية قضائية دولية بعد، ولم يكن هناك حدّ أدنى من وعي العواقب. وفي لبنان اليوم، يدخل أهل التهويل في مفارقة ما بعدها مفارقة: هم يهدّدون بأنّهم لن يسمحوا بأن "يظلموا" بإتهامهم بالتورّط في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز الآخرين، لكنهم يهدّدون الآخرين مظهرين استعدادهم وتشوّقهم للقيام بجملة أمور عنيفة، توقع هي الأخرى دماً، ويسقط فيها شهداء كثيرين. إنهم إذاً يقولون الشيء ونقيضه: لا يريدون أن "تظلمهم" العواقب القضائية الدولية وفي الوقت نفسه يفاخرون او يزعمون بأنهم لا يأبهون بها.
أما السبب الثالث الذي يحول دون "سيناريو على الطريقة الرواندية" فهو أنّ الطرف نفسه الذي يصعّد ويتوعّد بالفتنة والحرب وعظائم الامور يعود ويستوحي المخارج التي يقترحها لموضوع المحكمة الدولية من "التسويات التقليدية على الطريقة اللبنانية والعربية". من جهة يقولون "سنقطع رأسكم". ومن جهة أخرى يسارعون إلى القول "نهدّد بقطعها أو نقطعها فعلاً لحثّكم على إبرام تسويات". وساعة يكون الجواب بأنّه لا يسع اللبنانيون إيقاف قطار المحكمة الدولية بعد أن أجمعوا جميعاً على إطلاقه يكون الرّد من طرف "مقاومي المحكمة" بأنّه عليكم أنّ تفرضوا منطق "لبنان محكوم بالتسويات" على العالم أجمع، وعلى الأمم المتحدة والقانون الدوليّ بالدرجة الأولى، وأن تنحروا كبش فداء تحت مسمى "شهود الزور"، وأن تسلفونا حجّة جديدة للإقدام على تمّوز 2006 جديدة تحت شعار "الفرضية"، هذا في الوقت نفسه الذي يعمل فيه هذا الفريق على فرض منطق "لبنان محكوم بالتسوية في موضوع المحكمة الدولية" بالإكراه، وليس بأي نفحة تسووية، ولا حتى أي مسلكية تفاوضية، لا بل على أساس أنّ الإكراه سوف يؤدي إلى النحر السياسيّ للفريق الآخر.
والحق أنّ التسوية الوحيدة الممكن إبرامها حول موضوع المحكمة هي ترك العدالة الدوليّة تأخذ مجراها، وعدم إستخدام القرار الظنيّ سلباً أو إيجاباً في اللعبة الداخلية اللبنانية، وتوقيع بروتوكول في هذا الإطار يفصل تماماً بين هذا المسار القضائيّ وبين النقاش في أمور أخرى يأتي في طليعتها حاضر ومستقبل السلاح الخارج عن إطار الدولة اللبنانية.
أما غير ذلك من تهويل بالإرهاب وبالتسوية على أساس الإرهاب فلن يقدّم ولن يؤخّر. والخطاب على الطريقة "الرواندية" ممكن ومعتمد، أمّا "التنفيذ" على الطريقة الرواندية فمستحيل، في حين أنّه لا قيمة لتكرار فعلة 7 أيّار إن لم تكن في الإتجاه الرواندي هذا! أما التفوق العسكري النوعي الذي يمكن أن يكسب عملية موضعية كما في 7 أيّار فهو يفقد حتماً ميزته التفاضلية في أوّل 24 ساعة من أي حرب أهلية معمّمة.
وإذا كان هناك من لا يزال يعمل تحت شعار "إزالة آثار 14 آذار 2005" فلا بأس بالتذكير بأنّ اللبنانيين أثبتوا بأنهم استطاعوا الذهاب لأبعد مما وصل إليه الأوكرانيون. في أوكرانيا، هُزمت الثورة البرتقالية انتخابياً، وفي لبنان، عادت ثورة الأرز وانتصرت في انتخابات 2009، وهذه واقعة أساسية مهما حاولت دعاية الفريق المهزوم انتخابياً التعكير عليها، زوراً وبهتاناً.
عام 2005 قالوا لبنان ليس أوكرانيا. وكانت ثورة الأرز في لبنان أكثر شجاعة من الثورة الأوكرانية نفسها. أيضاً لأنّ مناهضي الثورة البرتقالية في أوكرانيا كانوا أكثر أخلاقية بما لا يقاس من مناهضي ثورة الأرز في لبنان.
أما اليوم، وبوجه هذا التهويل كله الذي لا يذكرنا إلا بإذاعة "الألف تلة" التي كانت تحرّض الهوتو على التوتسي، فلا بأس، للمسارعة ولتنبيه القاصي والداني، بأنّ التسوية الوحيدة الممكنة تدخل في إطار وضع آليات لتحييد السياسيّ عن القضائي، أما كل ما عدا ذلك فيردّ عليه بعبارة واحدة: لبنان ليس رواندا!