الفتنة الطائفية بمصر... عبور الأزمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عمّار علي حسن
على رغم الاحتقان الطائفي السائد الآن في مصر، إلا أن ما بين المسلمين والمسيحيين أقوى من أن يحطمه تراشق إعلامي أو ينهيه تلاسُن، أو تقضي عليه آراء ومواقف بعض المتطرفين من الجانبين. فهناك من المشتركات والحسابات المتبادلة ما هو أكبر من زلة رجل دين كنسي متعصب مثل الأنبا بيشوي، أو سوء تقدير وتعبير من مفكر إسلامي مثل محمد سليم العوّا. وهذه المشتركات هي:
1 - التجانس العرقي: فالمصريون من أشد شعوب العالم تجانساً في الصفات العرقية والمقاسات الجسمية، ومن أكثرها تشابهاً في السحنة والملامح. ويمتد هذا التجانس من "البيولوجيا" إلى "السيكولوجيا" ليعزز التقارب النفسي بينهم. ويعبر الأنبا شنودة نفسه عن هذا الوضع بجلاء حين يقول إن: "وحدة مصر والمصريين من أسرار هذا البلد الخالد... هل هي الجغرافيا؟ هل هو الإنسان؟!... كم أصابنا من البلايا على مدى التاريخ، ولكن وحدتنا بقيت تقاوم الزمن. فلا خوف على مصر، ولا تشابه بينها وبين غيرها. ولم تنجح القوى الأجنبية قط في التفرقة بين المصريين، فمصر تحمي وحدتها، لأنها وحدة محصنة ضد مصائب الجهل والفقر والتخلف والمخططات الأجنبية".
2 - هبة الجغرافيا: فالمسيحيون ينتشرون في كل قرى ومدن مصر تقريباً، ولا يقطنون منطقة جغرافية محددة، كما هي الحال بالنسبة للأكراد في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران. وهذا الأمر يجعل علاقات الوجه للوجه قائمة يوميّاً بين مسلمي مصر ومسيحييها، ويزيد من تشابك المصالح المتبادلة، ولا يجعل فكرة الانفصال قائمة أبداً، أو لها أي معنى، ومن ثم استقر في وعي الجماعة الوطنية برمتها أنه لا مناص من العيش المشترك، ونشأت حاجة ماسة إلى تحسين مستوى هذا العيش.
كما أن الجغرافيا أتاحت فرصة كبيرة للدولة المركزية في السيطرة على الشعب، منذ فجر التاريخ. فالمصريون يعيشون في واد ضيق منبسط، يسهل ضبطه من الناحية الأمنية، ومن يتمرد على الوادي ويخرج إلى الصحراء يعرض نفسه لهلاك محقق. وهذا الأمر جعل بوسع النظم المتعاقبة على حكم مصر أن تخمد أية محاولة للفتنة في مهدها، وبات مستقرّاً في وعي الناس أن السلطة متواجدة دوماً، ويتصرفون في علاقاتهم اليومية على هذا الأساس.
3 - التشرّب الحضاري: فمصر الحاضر تتشرب كل طبقات الثقافات التي تراكمت عليها، هاضمة ما أتاها من الخارج، محتفظة في الوقت نفسه بكثير من أصالتها الأولى، لتبدو -كما يقول الفرنسي إدوارد لين- وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودت، وفوقهما القرآن الكريم، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء.
وإذا كانت مصر الراهنة عربية الهوية والحضارة، فإن كثيراً من المثقفين المسيحيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "مسيحيون دينيّاً، لكنهم مسلمون ثقافة وحضارة"، وزاد من هذا التصور أن كثيراً من منظري "القومية العربية" الأوائل كانوا من المسيحيين، وهم إن انتقدوا "الخلافة الإسلامية" كنظام سياسي، فإنهم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا الإسلام كدين وحضارة لتلك البقعة الجغرافية من العالم.
4 - وحدة الموروث الشعبي: فالفلكلور المصري واحد، لا يفرق بين مسلم ومسيحي. فعادات الأفراح والأحزان متشابهة، وطقوس الموالد واحدة، والجميع يتفاعلون مع الأساطير الشعبية بالدرجة نفسها.
5 - علاقات السوق: فالمصالح التجارية الحياتية بين المسلمين والمِسيحيين في مصر تفرض على الجانبين تعايشاًً مستمرّاً. فالأفراد في خاتمة المطاف ينحازون إلى مصالحهم الشخصية، وقد يبتعدون عن الهموم العامة إن وجدوها تؤثر سلباً على أرزاقهم، أو على الأقل يفصلون بين واجباتهم حيال المشكلة الكبرى ومقتضيات مصالحهم الفردية. وفي القرون الفائتة استعان حكام مصر بمسيحيين في الإدارة والتجارة والري، نظراً لخبرتهم في هذه النواحي، وتماهى هؤلاء في نظام الدولة ودافعوا عنه. وفي الوقت الحالي يستعين المسلمون بأهل الحرفة من المسيحيين، ويسعى المسيحيون من أصحاب التجارة إلى كسب ود المسلمين لأغلبيتهم العددية، التي تجعلهم القوة الشرائية الأساسية في البلاد.
6 - الخوف من عواقب الفتنة: فهذا الخوف يشكل كابحاً للطرفين من أن يتماديا في تصعيد أي خلاف طارئ ينشب بينهما، لأن استشراء الفتنة، يعني إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات، لا أحد بوسعه أن يعرف حجمها. وحتى هذه اللحظة لا يزال المصريون قادرين على وأد أية فتنة في مهدها، وحصرها في مكانها. فأحداث الكشح مثلًا لم تؤدِّ إلى مواجهات في القاهرة أو الإسكندرية، ولا حتى في مدينة أسيوط نفسها، بل إن أحداث الإسكندرية الأخيرة لم تمتد إلى أي من الأحياء القريبة من الحي الذي وقعت فيه. ولكن ترك الأمور على حالها، من دون علاج شافٍ، والاكتفاء بـ"المسكنات" أو اللجوء إلى أي "مخزون تاريخي" محمل بالتسامح والتفاهم، أو معالجة المسألة على مستوى النخب، لم يعد كافيّاً، خاصة مع وصول المشكلة إلى الجماهير العريضة، التي كانت في السابق تضرب مثلًا ناصعاً في احترام العيش المشترك.
ومع هذا فإن حال مصر، في اللحظة الراهنة، يبدو أفضل كثيراً من دول عربية أخرى، باتت في حاجة ماسة إلى ثقافة رفيعة من التعايش، تضمن لها الاستمرار على قيد الحياة، وتحصنها ضد التفكك إلى دويلات صغيرة، مثل ما هو مطروح بالعراق والصومال، أو الدخول في حرب أهلية طاحنة، مثل ما عليه الحال في لبنان، أو التعرض لاحتقانات مستمرة، تتفاوت من حيث الحجم والتأثير، مثل ما يجري في سوريا بين العرب والأكراد، وفي المغرب العربي بين العرب والأمازيغ، وفي السودان بين شماله وجنوبه، وشرقه وغربه.
وهذه الحالات جميعاً تستغلها قوى خارجية في تحقيق استراتيجياتها بمنطقتنا على حساب المصالح العربية المشتركة. ولا يمكننا أن نلوم الخارج في بحثه عما يعزز العناصر التي تحقق مصالحه، بل علينا أن نلوم أنفسنا على أننا نحرث الأرض أمامه بما نزرعه من أحقاد وضغائن في نفوس أبناء الدولة الواحدة.