انتهاك القانون سيدمّر الكويت

جاسم بودي


قضية ياسر الحبيب ما كانت لتتفاعل بالشكل الذي تم لولا أننا أمة لم تستطع الخروج من هودج الجمل في موقعته ولا من السقيفة في مؤتمرها ولا من خلافات الخلافة وقميصها الأحمر الذي صبغ تاريخنا ويصر بعضنا على صبغ حاضرنا ومستقبلنا به...أمة عاجزة عن فتح النوافذ خوفا من الضوء رغم أن رسالة الاسلام العظيمة كانت ضوء الهداية ونور التطور لأمم كثيرة خلت.
لا يوافق عاقل واحد على ادعاءات الحبيب وهي مرفوضة ومدانة جملة وتفصيلا وتعكس قدرات ومقومات قائلها ولا تخرج عن حدود شخصيته أو شخصية الذين يماثلونه في الطريق نفسه وهم أقلية الاقلية، وفي الوقت نفسه لا يوافق عاقل أيضا على الكلام "الطائش" أو "المركز" الذي يخرج كردة فعل فيخلط بين الدفاع عن أم المؤمنين والصحابة رضي الله عنهم أجمعين وبين استهداف طائفة كريمة أو تصفية حسابات سياسية باسم السجال الديني أو استفزاز "عمائم" لاستدراجها الى فخ الفتنة.
كشفت قضية الحبيب سلبيات كثيرة يمكن ان تصبح ايجابيات اذا احسنا قراءتها جيدا وتوظيفها في التصحيح المطلوب. واول ما كشفته هو حجم الخواء الفكري لشرائح اجتماعية كثيرة، وحجم الانقسام الحاصل على مستوى النخب والعامة، وحجم التربص والتربص المضاد بين فئات تعتاش على هذا النوع من السجال، وحجم الاستعدادات الخارجية للتدخل وصب الزيت على نار الفتن.
كذلك كشفت قضية الحبيب حجم الحريصين على الوحدة والتعايش السلمي والحوار الحضاري، وحجم الخائفين من ان تتحول الكويت الى مسرح تجارب طائفية ومذهبية كما يحصل في مناطق اخرى قريبة وبعيدة، وحجم "القرف" الذي شكل شعور الكثيرين وهم يتابعون سجالا من زمن الكهوف والمغاور فيما سجالات العالم المتحضر تتركز على الانجازات العلمية والتنموية والطبية. هم يستعدون لاستقبال الجيل الخامس من التكنولوجيا المتقدمة بعدما أنجزوا بنجاح الجيل الرابع ونحن نستعد لاستقبال الجيل الخامس من الارهابيين والمتخلفين والعاجزين بعدما انجز الجيل الرابع وبنجاح منقطع النظير مهمة التدمير للذات وللعلاقات مع الآخر.
حجم "القرف" الشعبي من المتطرفين في المعسكرين ايجابية تبنى عليها ايجابيات وتحتاج الى عمل جاد ومسؤول مع شريحة كبيرة لتعميم ثقافة المجتمع المدني والجهاد من اجل التنمية والتطور والكلمة السواء والوحدة والاستقرار.
ومن الايجابيات التي علينا ان نقتنصها ايضا ضرورة الالتفاف القوي حول القانون، فقضية الحبيب ما كان لها ان تكون لولا الانتهاك المستمر للقانون في الكويت. بدأ الرجل السير في منهجه عبر مجلة غير مرخصة تجاهلتها وزارة الاعلام (ما أشبه البارحة باليوم) وقيل لنا "تسيب"، ثم أخطا الرجل فسجن، ثم خرج من السجن وملفه القانوني مازال مفتوحا وقيل لنا "غلطة"، ثم تم تهريبه من البلاد الى العراق وقيل لنا "سهو"، ثم ذهب من العراق الى ايران من دون ان تطالب السلطات المعنية به وقيل لنا "تقصير"، ثم غادر من ايران الى بريطانيا وترك هناك من دون أي مراجعات وقيل لنا "إهمال".
والى من سهّل "الغلطة" وتغاضى عن "السهو والتسيب والتقصير والاهمال" نقول: "ان انتهاك القانون لم يعد (ولم يكن أساسا) تجاوزا لتمرير مصالح ضيقة فحسب بل تمهيد لجريمة تهدد أمن الكويت واستقرار مجتمعها ووحدة أبنائها"... وهنا نقطة البداية في التصحيح، فلو تمت محاسبة المقصر والمهمل والمتواطئ (نعم المتواطئ) منذ البداية لما وصلنا اليوم الى كل هذه الأزمة وهذا التراشق الطائفي البغيض. بل اكثر من ذلك، ففي حال لم يفتح التحقيق اليوم مجددا لمحاسبة كل من قصّر سابقا وأوصلنا الى ما نحن عليه فان الازمة ستتكرر وتتكرر وتتكرر.
وقد يقول قائل إن التراشق الطائفي كان قبل قضية الحبيب وسيستمر بعدها، وهذا صحيح، الا اننا هنا في وارد تشخيص حالة بعينها كان يمكن ان تبقى محاصرة بحكم القانون لا ان تخرج الى الشارع وتحاصر الحياة السياسية والاجتماعية الكويتية.
وما نذكره في هذه القضية يستقيم في قضايا اخرى، فهناك اشخاص تجنسوا من دون وجه حق، وهناك مجرمون تم تهريبهم من السجن، وهناك سارقون يمشون مثل الطواويس، وهناك وزراء لا يدرون ما في وزاراتهم، وهناك نواب يعتدون علنا على وزراء ومسؤولين، وهناك شيوخ يتباهون بأنهم يستطيعون باجتماعات "الليل" الالتفاف على قوانين النهار.
تبقى كلمة. ففي خضم الاندفاع المحموم لمطالبة الحكومة بإسقاط جنسية ياسر الحبيب غابت القاعدة الذهبية "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وتمت معاقبة حالة معينة بأسلوب خاطئ. اسقاط الجنسية ليس العنوان الصحيح مهما كانت اجتهاداته القانونية، ومن كان يفترض فيهم ان ينوّروا الناس في هذه القضية كونهم مخضرمين ودستوريين ومدافعين عن الحقوق المدنية صمتوا صمت القبور للأسف الشديد بسبب الحسابات الظرفية والوقتية من جهة، وبسبب "طاحونة التصريحات المذهبية" المجنونة التي خطفت أصواتهم المعتدلة من جهة أخرى.
عودة الاصوات الوطنية المتمدنة العاقلة المتحضرة القانونية الدستورية الوطنية التوحيدية... هي أيضا من دروس أزمة الحبيب التي نعوّل عليها لإنتاج مواقف إيجابية.